"بعد أن ضيقنا عليه الخناق أدلى المتهم باعترافات تفصيلية"، تحولت هذه الكلمات إلى تيمة ثابتة ترددها الأجهزة الأمنية عقب إلقاء القبض على متهم فى معظم الجرائم التى هزت الرأى العام فى مصر، آخر ظهور لهذه الجملة ورد فى قضية مقتل ابنة الفنانة ليلى غفران وصديقتها فى مدينة الشيخ زايد، وما زاد الأمور غرابة حول الجملة، ما جاء على لسان ليلى غفران نفسها فى برنامج "القاهرة اليوم" التى شككت فى قاتل ابنتها محمود سيد عبد الحفيظ، الذى قبضت عليه الشرطة، وقالت غفران فى حديثها لبرنامج "القاهرة اليوم" أتمنى أن يكون هو القاتل، لكننى أشعر بأن هناك شيئا خطأ فى الموضوع، إلى هنا انتهت كلمات الأم المكلومة، لنستعيد فيها بعض الجرائم التى ضيقت فيها الشرطة الخناق على المتهم، وأدلى باعترافات تفصيلية ثم ظهر بعد ذلك براءة هؤلاء المتهمين "الفنانة حبيبة" بعد أن قضت خمس سنوات فى السجن لاتهامها بقتل زوجها القطرى، أعلن النائب العام إخلاء سبيلها، لأن الصدفة قادت الأجهزة الأمنية للقاتل الحقيقى، أما محمد على أحمد، فقد صدرت براءته من دم ضحايا بنى مزار بعد قضائه فترة من الوقت رهن مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية تحت الحراسة المشددة، لتسجل القضية فى آخر الأمر ضد مجهول. فى حين لا يزال الصحفى رضا هلال الذى مرت 5 سنوات كاملة على اختفائه، سراً غامضاً استعصى على أجهزة الأمن المصرية.
قد لا تكون هذه النماذج هى السمة العامة لأداء جهاز الأمن المصرى، إلا أن تكرارها خاصة فى القضايا التى تمس الرأى العام، يثير العديد من التساؤلات حول أداء الجهاز المصرى فى الكشف عن مرتكبى الجرائم وبخاصة الجنائية منها على وجه التحديد.
إذ لا تخلو صفحة من صفحات الحوادث من الإشارة إلى جهود رجال المباحث التى قد تبدأ من مساعد وزير الداخلية للأمن، ومدير الإدارة العامة للمباحث وضباط برتب مختلفة، ولا تنتهى بوكلاء النيابة، بينما العبارة المكررة والأبرز فى وصف كيفية استخلاص الاعتراف من المتهم هى "وبعد تضييق الخناق"، فكيف تتم عملية تضييق الخناق هذه، وكيف تتمكن أجهزة الأمن الجنائى من الوصول إلى المتهم، وما الدور الذى تلعبه مصلحة الأدلة الجنائية فى الأمر، وأين ينتهى دورها ليبدأ دور ضابط المباحث الذى يبدأ فى "تضييق الخناق" على المتهم حتى يعترف؟
الجرائم الجنائية تقع ضمن اختصاص المباحث العامة والتى تنقسم إلى قطاعين، هما قطاع المال ويتضمن سرقات السيارات والمساكن والمتاجر وجرائم النشل، والقطاع الثانى هو قطاع النفس وهو مسئول عن جرائم القتل والحريق العمد والخطف والاغتصاب والاختفاء. وهذا النوع الأخير من الجرائم وفق مصدر بالداخلية هو الذى يستحوذ على الاهتمام الأكبر من قبل المباحث "95% من هذه القضايا يتم الكشف عن مرتكبيها ونادراً ما تقيد ضد مجهول، أما الجرائم الأخرى فلا تتجاوز 70%" ويقول المصدر إن التحرك الأمنى فى مثل هذه الجرائم يكون على أعلى مستوى فيصل إلى تدخل مدير الأمن العام شخصياً، وتخرج فرقة بحث قد يصل عددها إلى 40 ضابطا و200 مخبر إذا كانت الجريمة كبيرة وتمس نطاقاً أو نطاقات جغرافية واسعة، حيث يكون هناك تنسيق بين إدارات المباحث فى المحافظات تحت إدارة جهاز الأمن العام. ويرجع المصدر هذا الاهتمام إلى عدة أسباب أهمها أنها تهز المجتمع كونها تتعلق "بأرواح ناس"، وأيضاً لأن الرقابة فيها من الجهات الأعلى تكون شديدة ويكون حساب الضباط المقصرين فى هذه القضايا قاسياً.
لكن ما الوسائل التى تتبعها هذه الفرق فى التوصل إلى الجناة، يقول المصدر إنه فى جرائم القتل مثلاً فإن الطريقة العلمية فى البحث تعتمد على تدخل قطاع الأدلة الجنائية، حيث ينبغى أن يكون خبير الأدلة الجنائية هو الشخص الأول الذى يكشف عن مكان الجريمة برفع البصمات أو أى أدلة أخرى تفيد فى التحقيقات. ثم تأتى بعد ذلك مرحلة التحقيق مع المشتبه فيهم بعد تحديد معالم الجريمة. لكن المصدر يؤكد على أن ما يتم على أرض الواقع مختلف "الأسلوب العلمى يأخذ وقتاً طويلاً، لهذا فإن أغلب ضباط المباحث يلجأون للطرق الأخرى فى العثور على الجناة"، هذه الطرق الأخرى تتضمن استجواب المحيطين بالمجنى عليه والبحث فى أجندة التليفونات الخاصة وخط سيره قبل وقوع الجريمة "هذه هى الطريقة الأسرع، والأدلة الجنائية نعتمد عليها عادة فى تحديد ساعة ارتكاب الجريمة والأداة المستخدمة فقط".
لكن لماذا لا يتم الاعتماد على الوسائل العلمية فى البحث الجنائى للتوصل إلى الجناة، هل لأنهم يفتقرون إلى الكفاءة، أم إلى الأدوات والوسائل الحديثة، يجيب العميد محمد الهوارى رئيس الأدلة الجنائية السابق وخبير المعمل الجنائى أن إدارة الأدلة الجنائية لا تنقصها الكفاءات لأن بها ضباطا على أعلى مستوى وخبراء متميزين فى كشف الجريمة بأنواعها. غير أنه فى الكثير من الأحيان يكون هناك تباطؤ من قبل ضباط المباحث فى إبلاغ الأدلة الجنائية بالجريمة لأنهم عادة يفضلون العمل بطرقهم الخاصة، الهوارى أكد على أن وزارة الداخلية تعمل على تحديث أدوات البحث الجنائى بشكل دائم. بينما علق المصدر الأمنى بقوله إن أغلب ضباط وخبراء الأدلة الجنائية يفضلون الاعتماد على الوسائل التقليدية اليدوية فى التقصى "أحياناً بسبب عدم تدريبهم على استخدام الوسائل الحديثة، وفى أحيان أخرى بسبب ثقتهم الزائدة فى قدرتهم على جمع الأدلة من دون اللجوء لهذه الأجهزة، وهو ما يؤخر عملية البحث والتقصى"، لكنه أضاف أن الجرائم الكبيرة التى تهز الرأى العام يتم اللجوء فيها للأدلة الجنائية للإحاطة بدقة بكل تفاصيل الجريمة.
لكن لماذا على الرغم من ذلك فشلت أجهزة الأمن فى تعقب الجناة فى عدة قضايا هزت الرأى العام، الهوارى قال إن "دورنا يتوقف عند رفع تقرير على ضوئه تتحرك المباحث والنيابة، لكن فى بعض القضايا الكبيرة لا يؤخذ بكل جوانب التقرير أو يكون هناك قرار بتتبع وجهة معينة لسير القضية وهذا الأمر لا علاقة للأدلة الجنائية به".
التدخل السيادى فى مجرى بعض القضايا التى تشغل الرأى العام هو سلاح ذو حدين، إذ أنه فى بعض الأحيان يكون دافعاً وراء بذل أقصى مجهود لتتبع خيوط الجريمة، لكنه فى أحيان أخرى يؤدى إلى نتائج عكسية. وهو ما أكده اللواء السابق بالداخلية مصطفى الكاشف، "ففى قضية بنى مزار على سبيل المثال كانت هناك ضغوط سيادية، وضغوط من الإعلام والرأى العام لكشف الجناة، وهو ما أدى للتسرع فى اتهام شخص برئ بارتكاب الجريمة لتهدئة الرأى العام، وعلى العكس من ذلك يبدو أن نفس التدخل السيادى هو الذى يقف خلف عدم الكشف عن مصير الصحفى رضا هلال حتى الآن".
لكن بعيداً عن التدخل السيادى، هل هناك أسباب أخرى لتسجيل القضايا ضد مجهول؟ الكاشف يؤكد أن هناك تراخياً فى الجهاز الأمنى سببه على حد قوله إن الأمن الجنائى تحول إلى أمن سياسى، "عدد كبير من رجال الأمن الجنائى وعلى رأسهم الضباط وخاصة فى القاهرة يتم استهلاكهم فى التشريفات الرئاسية وتشريفات الشخصيات المقربة من الرئيس، والتى قد تستغرق منهم اليوم بأكمله، وبالتالى لا يوجد وقت لدى رجال المباحث فى الاهتمام بأمن المواطنين لأنهم مشغولون بأمور أخرى ترى الدولة أنها أهم"، الكاشف يضيف أنه فى الوقت القصير المتاح لرجال المباحث للاهتمام بقضايا المواطنين، فإنهم يلجأون لوسائل غير علمية على رأسها التعذيب كنوع من الاستسهال.
بينما يرى أيمن عقيل المحامى والناشط الحقوقى أن رجال المباحث، يعتبرون التعذيب هو الوسيلة الأنجح التى يعتمدون عليها فى "تقفيل القضايا" على حد قوله، لكنه يشير إلى أن السبب فى ذلك يرجع أيضاً إلى عوامل أخرى أهمها انتشار الجريمة وتفاقمها بما يفوق قدرة الجهاز الأمنى، "فالجهاز الأمنى لا يستطيع ملاحقة العدد الكبير من الجرائم التى يزداد عددها يوماً بعد يوم، خاصة مع الضغوط الكبيرة التى يتعرضون لها" وبالتالى والكلام مازال لعقيل أن الصدفة تلعب دوراً كبيراً فى كشف الجرائم الجنائية بمصر.
التباطؤ أو الفشل فى تعقب الجناة يعد مؤشراً خطيراً يهدد الأمن العام والسلام الاجتماعى، وقد يؤدى –لا قدر الله- إلى لجوء المواطنين إلى قدراتهم الفردية فى الحصول على حقوقهم بدلاً من الاعتماد على جهاز أمن يعتمد على الصدفة، غير مؤمن بالعلم الجنائى، المنشغل بتأمين كبار الشخصيات.
الضغوط السيادية والإعلامية وراء "تقفيل" قضايا الرأى العام بشكل سريع
الخميس، 11 ديسمبر 2008 02:11 م
الضغوط السيادية فى قضايا الرأى العام تجبر الشرطة على الإسراع فى "تقفيل" هذه القضايا
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة