سأل وكيل النيابة رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى: «ما تعليقك على ما قرره المتهم «محسن السكرى» على النحو سالف البيان، أى الاتهامات التى وجهها ضد هشام؟.. رد هشام: أنا تفسيرى لهذا الأمر هو واحد من ثلاثة احتمالات، أولها أن محسن تم استغلاله كأداة لضربى من الناحية الاقتصادية»، وسرد هشام الاحتمالين الآخرين، لكن ما يعنينا هنا هو الاحتمال الأول.. لماذا؟.
من زنزانة السجن، إلى فضاء الحرية، ومن دهاليز صفقات البيزنس إلى سطحها العلنى، يأتى الحديث دائماً عن هذا «الغامض»، أو فلنقل «الجوكر»، الذى بمقدوره أن يفكر، فيخطط، ثم يضع السيناريو، ويترك للآخرين التنفيذ، والقصة على هذا النحو يكون عنوانها «ضعوا هذا فى السجن»، أو «فلتقع هذه الصفقة على فلان بدلاً من علان»، « ولأن الفساد لابد أن يتم تحميله لأحد، يصبح الأمر فى خيال عامة الناس: «إن هذا الغامض أو الجوكر، هو التجسيد العملى للفساد، أو هو الكائن الذى يسير بيننا على قدمين»، وحتى نقترب من المعنى، فلننعش ذاكرتنا بما رواه البعض عن هذا «الغامض»، أى «الجوكر».
لم يفصح هشام طلعت مصطفى عن هذا «الغامض»، الذى من المحتمل أن يكون قد وقف وراء محسن السكرى، لتوريط هشام فى قضية مقتل سوزان تميم، وبالتالى أضراره اقتصادياً، ولم يضع هشام نهجا جديدا فى هذا المسار، إنما هو نفس النهج الذى اتخذه سابقون.. وإلى الأمثلة:محيى الدين الغريب وزير المالية الأسبق لحكومة د. كمال الجنزورى، كان مهددا بالسجن 60 عاماً فى عدة قضايا، اسغلال نفوذه ورشوة وغيرهما، وأخذ حكما بالسجن 8 سنوات، وبعد براءته من محكمة النقض فى يوليو 2004، وبعد انهمار دموعه فرحا بالبراءة، قال: «تعاملت مع الحكم بأن له أسبابه، وأن هناك من وقف وراء القضية، والله أعلم حتى لا أوجه اتهاما لأحد»، وأضاف: «أنا أعرف لماذا تمت إحالتى للمحاكمة، وإعلان الحقيقة فى هذا التوقيت له تبعات خطيرة، ومن مصلحة مصر، ومصلحة الوضع العام، ألا يتم الحديث فى هذه الموضوعات».
ورغم مرور ما يقرب من 5 سنوات على تفجير القضية ثم الحكم فيها، لم يفصح الغريب حتى الآن عن هذا «الغامض» الذى يعرف لماذا أحاله إلى المحاكمة؟، وبالتالى أصبحت تصريحاته معلقة بين السماء والأرض، لا أحد بمقدوره إنزالها، أو رفعها، لكن من بين سطور، وفهم أعمق لمراحل الانتقال من حكومة إلى أخرى، يدفعنا إلى طرح السؤال.. هل فعل هذا «الغامض» فعله مع الغريب، كنوع من تصفية الحساب مع شخص الجنزورى حتى يسحب من رصيده بعد أن قيل أنه وضع يده على ملفات شائكة،، لكنها أوقعته على الأرض وهو يستعد للطيران بها؟.. ربما.
من «الغريب» البرئ بقرار النقض، إلى ماهر الجندى - محافظ الجيزة الأسبق -، والذى خرج من السجن بقرار وزير الداخلية، وبعد سنوات من الحكم عليه بالسجن فى قضية رشوة، أطلت أيضاً مدرسة «الشخص الغامض»، فبعد خروجه أطلق تصريحات بأنه «برئ» فى قضية الرشوة، وزج به فى السجن ظلماً وبدون دليل فى القضية!، وقبل أن يخرج ماهر أطلق زميله فى السجن مرتضى منصور - النائب البرلمانى ورئيس« نادى الزمالك «السابق» -، تصريحات قال فيها «أقسم ببراءة ماهر»، وأضاف: «ماهر شريف وبرئ وتم توريطه، ولا يستطيع أن يصرف على نفسه فى السجن»، ووصل الأمر بالجندى إلى أن يطلب «إعلامياً» مقابلة الرئيس مبارك ليشرح له كيف تم الزج به.. ولم يقابله بالطبع الرئيس مبارك، وحتى الآن لم يكشف الجندى للرأى العام، من هو هذا «الغامض» الذى زج به فى السجن كما قال.
وإذا كانت سطور «التفاعلات السياسية والاقتصادية»، التى أدت إلى الانتقال من كمال الجنزورى إلى عاطف عبيد، تقربنا من فك شفرة الرجل الغامض فى قضية محيى الدين الغريب، فإنها ليست بهذا الوضع فى قضية ماهر الجندى، فهو لم يكن «ترساً» سياسيا، أو اقتصادياً يدفع العجلة إلى الدوران، بالدرجة التى تخلق معها خصوماً، وأنصاراً، لكن تصريحات ما بعد الإفراج عنه جددت الحديث عن هذا «الغامض»، وإذا كانت فى حالته وفى حالة «الغريب»، تذهب إلى شخص واحد، لا نعرفه بالطبع، إلا أنها فى حالة مرتضى منصور تتسع لتصل إلى 50 غامضا إلا قليلاً، قال مرتضى بعد خروجه من السجن: «فى السجن قمت بالدعاء على 50 شخصية تسببوا فى سجنى»، ولأن مرتضى ليس كاتماً للأسرار بالدرجة الكافية، فمن السهل أن تسمع منه فى معاركه أسماء بوزن الدكتور زكريا عزمى، وأحمد نظيف، وأحمد عز، وغيرهم من الأسماء الأخرى التى تساهم فى صنع القرار السياسى فى مصر، وعليه قد لا نرى هذا «الغامض» فى حالة مرتضى، لكن تصريحاته النارية قد تقربنا من هؤلاء الغامضين فى قضايا أخرى.
وقد يراها البعض أنها فى محاولة تتبع هذا «الغامض»، تنقل الحديث من الجد إلى «الهزل».. لكنها تنضبط من جديد على حالة الجد فى مسألة رجل الأعمال حسام أبوالفتوح، الذى برأته المحكمة فى نوفمبر الماضى من تهمة الاستيلاء على مليار و400 ألف جنيه من أموال بنك القاهرة، والتوصيف فى حالته يأتى هذه المرة على لسان الناشط الحقوقى والمحامى نجاد البرعى: «الأعوام الأربعة التى قضاها فى السجن كانت من الممكن أن تقصر إلى أربعة أيام أو أربعة أسابيع، إذا أرادت الحكومة ذلك لـكنها ضريبة يدفعها كل من استحق الغضب بدليل التنكيل به أخلاقياً خلال فترة سجنه».
جملة البرعى «ضريبة يدفعها كل من استحق الغضب»، تتسع لتحوى بداخلها ما يمكن قوله فى عالم «البيزنس»، وأسراره، وتشابكه مع السياسة وتقلباتها، لكن لماذا استحق أبوالفتوح الغضب؟، ومن هو «الغامض» الذى صنع حالة الغضب عليه؟، هل هو من كبار رجال البيزنس الذين كانوا يصارعونه؟.. أم هو خليط من رجال السياسة مع رجال البيزنس، بعد أن أصبحوا خلطة واحدة تترابط مصالحها، وتتدافع الإجراءات من أجل الحفاظ عليها؟.
هل يمكن تطبيق معيار البرعى على حالات أخرى؟ فلنذهب إلى ما يقوله محمود عبدالعزيز - رئيس البنك الأهلى الأسبق - عن حالة محمد أبوالفتح - رئيس بنك القاهرة الأسبق - والذى واجه اتهاما بتبديد أموال البنك وقت رئاسته، قال عبدالعزيز: «كانت كل مشكلته أنه يستجيب للضغوط السياسية، وكان غير قادر على مواجهتها»، وأضاف عبدالعزيز: «قضية أبوالفتح كلها فاسدة، ولفقت لإلهاء الشعب عن قضية نواب القروض»، وزاد عبدالعزيز فى القول: «التسهيلات الائتمانية التى أجراها أبوالفتح، وسمح بها فى البنك، كانت تتم بتعليمات من مسئولين كبار فى الدولة»، وحين سئل عما إذا كانوا فى مقدورهم أن يلبسوه قضية، رد: «إيه يعنى.. هذا شىء طبيعى فى بلدنا».
«الغامض» الذى يتحدث عنه عبدالعزيز ويطبقه على حالة أبوالفتح «رحمه الله»، حدده فى الضغوط السياسية، ومن ثم يقربنا من هوية «الغامض»، الذى تتلون أشكاله، وتتعدد الأحاديث بشأنه، لكن لا أحد يكشف عنه، لم يكشف عنه هشام طلعت مصطفى، ولم يكشف عنه محيى الدين الغريب، ولم يكشف عنه ماهر الجندى، ولم يكشف عنه حسام أبوالفتوح، وحدد بيئته محمود عبدالعزيز، ومن هنا نقفز إلى حالات أخرى لا يوجد فيها متهمون بالمعيار القانونى، ولكن فيها بالمعيار السياسى، ولنأخذ مثلاً قضية مصنع أجريوم الذى كان مقررا إقامته فى دمياط، وآخر عن قضية تصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل.
كانت المناقشات ملتهبة فى مجلس الشعب حول أجريوم للوصول إلى قرار بخصوص المشروع يتوافق مع رغبة أهالى دمياط فى إلغاء المشروع، وبعد أكثر من جولة نقاشية برلمانية لم يتم التوصل خلالها إلى الرأى القاطع، مما دفع النائب البرلمانى المستقل طلعت السادات إلى القول: «القضية أكبر من مجلس الشعب ومن الحكومة، ورئيس الوزراء لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً، كما هو الحال فى قضية الغاز وتصديره لإسرائيل، فهو «رئيس الوزراء» لا يستطيع إصدار أمر باستمرار التصدير أو إلغائه، والوضع نفسه بالنسبة لوزير البيئة، فهو لا يستطيع أن يقول لا لمصنع أجريوم، أو يقول أنه مخالف»، أطلق السادات قذائفه حتى وصل إلى جوهر القصة، معبراً عنها بالقول: «إذا كنتم تريدون المحاسبة أو تستطيعون فعلها ففتشوا عن الجوكر، هو اللى بيسهل ويعطى الموافقات، ويأخذ العمولات، وأحياناً يكون ظاهرا، فيشترى المشروع لفترة محددة، ثم يخرج منه مقابل عمولة كبيرة يقسمها مع شريكه الخفى، وأحياناً لا يكون ظاهرا، فيقوم بكل التسهيلات لإرساء العملية على المستثمر الأجنبى، كما هو الحال فى أجريوم».
السادات وصل فى وصف الجوكر إلى سقف أعلى بقوله: هو أكبر من أى مساءلة أو محاسبة، ومهما فعلتم فى مجلس الشعب، ومهما تكلمتم، وتقدمتم بطلبات إحاطة وبيانات عاجلة، فلن يغير هذا الأمر شيئاً»، وضع السادات أصبعه على الزناد، وبالرغم من إغلاق ملف أجريوم بكل ما حمل، إلا أنه لا أحد يعرف هل أخذ المعارضون للمشروع نصيحته واختصروا الطريق وذهبوا إلى «الجوكر» أو «الغامض» لإغلاق الملف؟ أم أن ما قاله كان بمثابة التصريح العلنى الذى التقطه هذا «الجوكر» «الغامض»، فقرر تسوية الملف حتى لا يخرج الاسم من حيز اللغز إلى حيز التصريح بحقيقته.. وهل لهذا «الغامض» علاقة بما قاله السفير الكندى وقت اشتداد حمى الهجوم على المشروع، بأن هناك عمولات غير قانونية دفعتها الشركة تصل إلى 25 مليون دولار.. انتهى كلام السادات.. وانتهى الملف.. وبقى «الجوكر» كما هو غامضاً.
أما فى قضية تصدير الغاز لإسرائيل التى تحدث عنها السادات، والتى فشل مجلس الشعب فى التوصل لقرار بشأنها، واختصرت فقط على مناقشات ساخنة، فقد ربط البعض الحديث بشأنها برجل الأعمال حسين سالم رئيس مجلس إدارة شركة «غاز شرق البحر المتوسط»، وهى مملوكة لثلاثة مساهمين رئيسيين، هو أولهم، ويملك نسبة 65 %، ورجل أعمال إسرائيلى بنسبة 25 %، وشركة الغاز المصرية بنسبة 10 %،«وشرق البحر التوسط» مسجلة فى المنطقة الحرة بمصر، وهى التى تملك حق تصدير الغاز لإسرائيل، البعض رأى فى قصة حسين سالم، شبها بالشركة الأمريكية للبترول والطاقة هاليبرتون، التى ترتبط بعلاقة وثيقة مع نائب الرئيس الأمريكى ديك تشينى، وبفضل هذه العلاقة أخذت الشركة نصيب الأسد فى النفط العراقى، باع حسين سالم 12 %من حصته فى الشركة عام 2004 بقيمة مليار دولار، أى أن البيع تم قبل التوريد والضخ الفعلى للغاز لإسرائيل، ويتردد الآن أنه باع باقى النصيب.. فما علاقة كل ذلك بطبيعة دور «الجوكر» أو الرجل «الغامض» فى الصفقات أو فى دهاليز البيزنس؟.
تباطؤ مجلس الشعب، أو فلنقل مناوراته فى مناقشة القضية ,هو الذى طرح هذا السؤال، وتنوعت الإجابات ما بين رأى يقول أن «الغامض» الذى يقف وراءها هو «ملاحق سرية» فى اتفاقية كامب ديفيد، ورأى يقول إن نفوذ حسين سالم ومن وراءه هو الذى يقف، ومع تنوع الاجتهادات لم نعرف أصل الحقيقة، وظلت القضية التى شغلت وتشغل الرأى العام مبعث التساؤل.. من الذى يمسك «الريموت كنترول لإدارتها؟»، صحيح أن الرئيس مبارك أعطى تعليماته بفتح التفاوض من أجل رفع أسعار تصدير الغاز، ولكن من فعل؟.. ومن تصدى؟ لا أحد يعرف، وجزء من المعرفة طال حسين سالم، والجزء الأكبر بقى «غامضاً»، فهل فى القائمة آخرون؟.
دولاب «الغامضين»، أو «الجواكر» يعطينا المزيد، منها «شخصية سياسية» بارزة كانت غطاء لزميل دراسة حصل على عقد امتياز استغلال ميناء العين السخنة فى عام 1999، بعد أن انفقت الحكومة أكثر من مليار جنيه على إنشاء الميناء، وفجر النائب السابق محمد أنور السادات هذه القضية فى البرلمان، قبل إسقاط عضويته مطالباً بتحويلها إلى النائب العام، وبعد تفاصيل أخرى لم يكن هناك جديد رغم طلبات إحاطة فى المجلس من الدكتور فريد إسماعيل - نائب الإخوان -، وهشام مصطفى خليل نائب «الوطنى»، والجديد، الذى كانت طلبات الإحاطة تريد مناقشته، هو بيع زميل دراسة «الغامض» لحصته فى شركة ميناء العين السخنة بملايين الجنيهات دون أن يدفع مليما واحداً.
لماذا لا يفصح النواب فى البرلمان عن «الغامضين» صراحة؟
«لا يوجد دخان من غير نار»، قاعدة يتذكرها النائب المستقل جمال زهران، وهو يجيب عن هذا الأمر بقوله: «هناك من الشواهد والدلائل ما يرتقى لمرتبة القرائن.. فممدوح إسماعيل مثلا،ً هرب خارج البلاد، وتأخر مجلس الشورى فى رفع الحصانة عنه حتى يتمكن من الهرب، وبالتأكيد هناك «جوكر» أو «غامض» وقف وراء ذلك، جمال أضاف: «نجد صعوبة كنواب فى الاقتراب من الحيتان أو «الجوكر» أو «الغامضين»، وأبسط مثال قضية بيع الأراضى لكل من هب ودب على طريق السويس الصحراوى والإسكندرية وغيرهما.
يعقد الصفقات.. يورط المتهمين..يصفى الحسابات.. ولا يكشف اسمه أحد
الرجل الغامض فى مؤمرات السياسة والبيزنس فى مصر
الجمعة، 07 نوفمبر 2008 12:15 ص
هشام طلعت
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة