الحكم التاريخى لمحكمة جنايات القاهرة بمعاقبة المتهم فى قضية تحرش جنسى بالسجن المشدد 3 سنوات، والذى صدر ولأول مرة فى قضية التحرش بالنساء، والتى كانت بطلته المواطنة نهى رشدى مؤخراً.. يمثل تجسيداً للمبدأ البسيط للدولة العصرية وهو مبدأ "سيادة القانون". فخرق القانون لا يمكن قط تبريره، فالقانون هو الأساس الذى يرتكز عليه أى مجتمع عصرى ومدنى بل ومتحضر، وعدم احترامه من جانب شخص أو جماعة إنما يشجع الآخرين على التصرف بالمثل، ولو أنه قدر لكل فرد أن ينتقى ويختار القوانين التى عليه أن يلتزم بها، لسرعان ما تفكك إطار القانون الذى تعتمد عليه أى دولة عصرية، بل ويعتمد عليه جميع المواطنين فى أى مجتمع متحضر، وتجسد "سيادة القانون" المبدأ البسيط القاضى بأن يكون جميع مواطنى أى مجتمع - مسئولون ورعايا- منتخبون أو غير منتخبين- فى إطار القانون والدستور، ويمكن اعتبار "مبدأ سيادة القانون" حجر زاوية للحرية الفردية والديمقراطية على حد سواء.. فبدونه لا يمكن أن يكون هناك حماية للحقوق الفردية، بيد أن سيادة القانون لا تكون فعالة إلا بقدر ما تكون هناك هيئة قضائية مستقلة وموضوعية ومتفاعلة مع قضايا واحتياجات الواقع الاجتماعى، بل ومع تحدياته المختلفة، وأن استغلال هذه الهيئة القضائية هو الذى يمنحها هيبتها واحترام أحكامها..
وبناءً على ذلك، فتحية عميقة لرجال القضاء الذين يعدوا الحائط الأخير والمانع للانفلات الاجتماعى والتسيب على كافة الأصعدة، فبدون هذا المانع لن تكون هناك ديمقراطية، ولا يمكن بأى حال من الأحوال حماية الحريات الفردية.
فإذا كانت المواطنة نهى رشدى تستحق التقدير لما قامت به من اختراق عادات بائدة وتقاليد عقيمة وكافحت من أجل الحصول على حقوقها الدستورية والقانونية والإنسانية، فبالمثل القضاء الذى تفاعل معها ومنحها حريتها وكرامتها بهذا الحكم الذى لم يكن فقط رادعاً للشباب المنفلت الذين لم يتعودوا على العقاب، وإنما محفزاً لكل امرأة تتعرض لكافة أشكال تجاوز حريتها وإنسانيتها، إذ للقضاء والمؤسسة القضائية دور هام فى أروقة الدولة العصرية والمدنية، باعتبار أن الملاحقة القضائية العادلة هى الضمانة الوحيدة ليس فقط لتحقيق العدالة بين الناس، وإنما لأنها الضلع القوى والقلب الصلب لحيوية أى مجتمع مدنى ومتحضر.
ورغم الإنجاز الكبير الذى حققه هذا الحكم لملاحقة الخارجين عن القانون والمتنازعين على خدش حياء المجتمع والانقضاض على حريات الآخرين، ورغم صلابة الشخصية التى أصرت على رفع القضية لتنال حقها وينال صاحب التحرش عقابه، ورغم مرارة الانتظار فى ساحات المحاكم، الجلسة تلو الأخرى، ورغم مرارة الأحاديث الجانبية عن هذه المرأة، فالبعض قد يجد أنها تجاوزت حدود أنوثتها وذهبت للمحاكم وأقسام الشرطة، والبعض يرى أنها قد تكون المخطئة لأنها سارت فى أوقات متأخرة، والبعض يدينها لأنها كانت عارية الرأس والوجه، والبعض يصفها بأنها المسئولة عن فعل التحرش ربما لطبيعة ملابسها والفتنة التى تثيرها وغير ذلك.
ورغم كل ذلك، تجاوزت الشابة كل هذا وأصرت على استرداد كرامتها عبر القانون وساندها العديد من قوى المجتمع وجمعيات المرأة، بل ووجدت من يساندها فعلياً فى رفع الدعوة أمام المحاكم وهى المحامية نجلاء الإمام واستطاعوا أن ينالوا حق الفتاة ويعاقب المتحرش بها وينال جزاءه. وبالطبع استند القانون إلى براهين وأدلة قبل حكم المحكمة الجليل، ولم يكن على الإطلاق حكماً لترضية فتاة أو حكماً ضد شاب متهور، بل حكما صحيحا استند إلى صحيح القانون بالأدلة والمستندات والشهود، وهذا هو القانون، فالقانون هو القانون، لا يعرف عاطفة ولا وجدان ولا لون ولا عرق، القانون هو القانون بمواده وبنوده التى تسرى على الجميع.
ولكن بعد كل ذلك فوجئنا- بأن السيدة المحامية (الأفوكاتة) والتى كانت طرفاً أصيلاً فى القضية باعتبار أنها اقتنعت بموكلتها وبدوافع القضية وأيقنت من صدقها، وبالتالى قامت برفع دعواها وجمعت المستندات والبراهين وغير ذلك من أصول القواعد القانونية التى تأخذ بها المحكمة.. نراها هى نفسها تصرح بأنها ستقوم بالاستئناف على الحكم الصادر لصالح موكلتها التى تعرضت للتحرش، ولكن لصالح المتهم الذى حكم عليه بالسجن 3 سنوات.
بالطبع آثار هذا الخبر انتباهى كما أعتقد أنه آثار انتباه الآخرين، وبعد استكمالى لقراءة الخبر.. تبين أن المحامية اكتشفت أن الفتاة تحمل جواز سفر إسرائيلياً باعتبارها من مواطنى عرب 48 فى إسرائيل، وأن هذه الفتاة تعرضت لحالة تحرش من قبل على يد شاب فرنسى منذ عام ونصف وقامت الفتاة برفع دعوى مماثلة.
والسؤال الذى يطرح نفسه، هل لم تعرف السيدة المحامية أن موكلتها تحمل جوار سفر إسرائيلياً؟ وهل حافظة المستندات التى تقدمها للمحكمة لا تشتمل على جنسية المواطنة وبطاقتها وغير ذلك من المستندات؟ أم أنها قامت برفع دعوى قضائية من مجهولة؟
ومع أسوأ الاحتمالات أنها لم تكن تعلم، باعتبارها تعرفت على نهى رشدى فى برنامج 90 دقيقة قبل المحاكمة بأربعة أيام وطلبت منها قبول حضورها فى الجلسة للتضامن معها، ولم تعمل لها توكيلاً، ولكنها فوجئت بها تثبت حضورها مع أربعة محامين آخرين كمتضامنين، بل وفوجئت بالسيدة المحامية تتصل بها لمشاركتها فى أحد البرامج باعتبارها المحامية الخاصة بها.. فإنه كما أشرنا، فمن المؤكد أن كل الأوراق الثبوتية كانت لدى المحكمة الموقرة، وإذا كان هناك أى تدليس على المحكمة، فالمحكمة هى الأولى باكتشافه.
فما تفعله هذه السيدة المحامية (الأفوكاتة) فى هذه القضية، هو إساءة للقضاء قبل أن يكون إساءة لموكلتها التى أثبتت أنها مولودة بليبيا ومن أم مصرية، فلماذا الزج بهذه المؤسسة العريقة ومحاولة الإيحاء بأن الحكم الذى صدر يشوبه عيوب؟.. إن هذا هو الجرم بعينه!!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة