جاءتنى هذه الرسالة من أحد رموز مصر.. المستشار هشام البسطويسى نائب رئيس محكمة النقض.. القاضى الذى لم يكن أبدا محسوبا على أى تنظيم إلا تنظيم العدالة، ولا منتميا إلى أى جماعة باستثناء جماعة الحق.. فنضاله من أجل استقلال القضاء كان واضحا للعيان، ورفضه تزوير الانتخابات كان معلنا وصريحا، واستنكاره تدخل السلطة التنفيذية فى عمل السلطة القضائية كان مشددا وحاسما، لا أعرف بالضبط هل مسموح لى أن أكتب عن بعض الجوانب الشخصية فى حياة هذا الرجل الذى سعدت كثيرا بالحوار معه وزدت فخرا بأنه مازال هناك أناس فى مصر يحبونها وأهلها أكثر من حبهم لذاتهم ومصالحهم الشخصية!.
فهو رجل بسيط.. قاض عتيد ومتمكن.. لا علاقة له بلعبة السياسة ولا يحمل فى رأسه أى طموح سوى ابتغاء مرضاة الله.. بيته الصغير أشبه ببيت موظف محدود الدخل، إلا أن ابتسامة زوجته الساحرة تجعله دائما قصرا، ورضا أبنائه يجعله بمساحة مصركلها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.
نعم فالقضاة فى مصر يتقاضون أجورا هزيلة لا تليق بمكانتهم ولا بعلمهم ولا بقدسية مهنتهم.. هذا الرجل سحبت منه بعض الامتيازات التى كانت ُتُدر عليه دخلا كمحاضر فى أحد المعاهد القضائية عندما صرخ معلنا رغبته فى استقلال القضاء، ومع ذلك لم يتراجع، وعندما وجدوا أن سياسة العصى لن تُجدى معه استخدموا سياسة الجزرة وعرضوا عليه أن تعود إليه نسبة الزيادة الـ 25 % على المرتب بأن ينتدب إلى محكمة القيم، تلك المحكمة التى قال عنها فى حوارى السابق معه إنها محكمة ما أنزل الله بها من سلطان، ولأنها ضد مبادئه رفضها تماما.. وها هو الآن رمز من رموز مصر أحس بقيمته كالعادة من هم بالخارج، فطلبته دولة الكويت بالاسم تقديرا له، فوافق مجلس القضاء على الفور ولأن بعض الظن إثم لن أقول إنه تمت الموافقة على عمله بالخارج ليريح من هم بالداخل.
وإليكم هذه الرسالة التى أرسلها لى هشام البسطويسى تعقيبا على ملف العدالة الذى فتحته بعدة حوارات.. وتعليقا على ما نشر فى جريدة المصرى اليوم بعدها وفيه إشارة لهربه من مصر لضيق الحال والأزمات الاقتصادية فى مصر.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الكاتبة الصحفية رانيا بدوى
بعدالتحية
اطلعت على الملف المهم والحوارات الممتازة التى قمت بإجرائها مع نخبة متميزة من القضاة وأساتذة القانون ونشرت فى جريدتكم الموقرة اليوم السابع، وكما اعتدنا منك فى حواراتك فأنت لست فى حاجة إلى أى ثناء لأنك أكبر من أى ثناء، وقلمك أقوى من أى مديح.. فقد سعدت بأنك وضعت استقلال القضاء نصب عينيك واخترت نخبة متميزة لمناقشة أزماته، لأنه حجر الأساس لأى إصلاح سياسى أو اجتماعى فى مصر وبدونه لا مجال لأى حديث عن الإصلاح أو التطوير، وتأثرت كثيرا لما كتبتينه عن حال العدالة فى مصر، فقد جاهدنا كثيرا نحن القضاة لتحقيقها قدر الإمكان فى ظل ظروف صعبة لم ندعها أبدا تنل منا ولم نتخل يوما عن شرف مهنتنا.
ولهذا وجدت أنه من المناسب أن أرسل لك شكرى وتحياتى على حواراتك وأخصك بهذه الرسالة التوضيحية بعد قراءتى ما نشر فى جريدة المصرى اليوم بعد أيام قليلة لتبنيك ونشرك ملف «العدالة فى مصر»، حيث نشر فى صحيفة المصرى اليوم بتاريخ 19 /-11-2008 نقلا عن وكالة الأنباء الألمانية تقرير عن إعارة مصر بعضا من خيرة قضاتها إلى عدد من الدول العربية تضمن صورة لى وتصريحا مجتزأ من سياقه، واجتنابا لإثم بعض الظن وجدت أنه لزاما علىِّ إيضاح بعض ما غمض وسىء فهمه:
إن إعارة نسبة العشرين فى المائة الواردة فى التقرير مقصورة على قضاة محكمة النقض، أما إذا قيس عدد القضاة المعارون نسبة إلى عدد القضاة العاملين فى جميع المحاكم فإن النسبة تقل عن ذلك كثيرا، وقد لا تجاوز الخمسة فى المائة.
إن إعارة مصر بعضا من خيرة قضاتها إلى الدول العربية لم يكن فى يوم من الأيام «هربا للقضاة»، وإنما بدأت إعارة القضاة فى الستينيات عندما أتيح لمصر قيادة تدرك دور مصر القومى فى منطقتها العربية، وتعرف أهمية دعم تحرر وتنمية قدرات الدول العربية، لأمن مصر القومى والوطنى، فكانت مصر تعير بناء على طلب بعض الدول العربية- عددا من قضاتها ومدرسيها وأطبائها ومهندسيها، وكانت مصر الرائدة تتحمل دون منٍّ ولا تعالٍ رواتب المعارين، ولكن دارت دورة الزمن وتم تجريف ثروات مصر وتفكيك قاعدتها الصناعية واختل ميزان العدل الاجتماعى فلم تعد رائدة ولا قادرة، وأصبحت الدول المستعيرة هى التى تتحمل رواتب المعارين.
إن الغالبية بين المعارين من قضاة مصر لم يكن هدفهم الأول أو الأوحد السعى لراتب أفضل وحياة أرغد، رغم أن هذا السعى وتلك الرغبة لا عيب فيها، ولكن كان قضاة مصر فى غالبيتهم يدركون أنهم أصحاب رسالة وولاية وليس حرفة يرتزقون منها، وأنهم يؤدون دورا فى دول شقيقة لا تقل أهمية عن دورهم فى مصر، وأن الدول العربية التى يعارون إليها سبق لها أن أوفت واجب الأخوة العربية والمساندة لمصر فى مواقف وأزمات عديدة. آية ذلك أن عددا من القضاة سبق إعارتهم إلى إحدى الدول العربية براتب يعادل وقتها سنة 1992- أربعة آلاف جنيه مصرى، ورغم ضعف الراتب، أوفى قضاة مصر هذه الدولة العزيزة لكل مصرى حقها، إيمانا برسالتهم وواجبهم القومى تجاه دولة ساندت (رئيسا وشعبا) مصر كلما احتاجت المساندة.
من حق الشعب المصرى أن يفخر بقضاته الذين لم تقبل غالبيتهم مالا وفيرا مقابل التواطؤ مع السلطة التنفيذية فى تزوير إرادته، لأنهم لا يقبلون إلا مالا حلالا يرضى الله عنه ويبارك فيه ولو قل، ولا كذلك مكافآت تزوير إرادة الناخبين. لو أن همنا الأول والأوحد هو المال لما رفض عدد غير قليل من القضاة الندب لجهات حكومية بمقابل مالى كبير، ومن ذلك الندب للعمل فى محكمة القيم بدرجتيها لما كانت تمثله من عدوان على استقلال القضاء وإهدار لحق المواطن المصرى فى محاكمة عادلة أمام القضاء الطبيعى.
أجدنى مضطرا للتذكير ببعض ما يتعرض له القضاة من ضغوط مادية ومعنوية من السلطة التنفيذية جزاء دفاعهم عن حق الشعب المصرى فى قضاء مستقل ونزيه، وفى انتخابات حرة ونظيفة، فمن تقتير فى الرواتب على من يرفض التفريط فى استقلاله، وهم غالبية القضاة، والإغداق على قلة رضيت بسيطرة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية وسكتت عن التلاعب فى نتائج الانتخابات العامة، إلى محاصرة وتضييق على نادى القضاة ومجلس إدارته المنتخب، إلى حملات تشهير فى الصحف ووسائل الإعلام الحكومية، إلى استمالة عدد من القضاة بالتلويح برفع سن التقاعد مقابل الاستجابة لرغبات السلطة التنفيذية وتدخلاتها فى شئون العدالة وتزوير إرادة الشعب، إلى تقييد حرياتهم فى السفر ومحاكمات هزلية تفتقد أبسط قواعد النزاهة والعدالة.....
لقد تحمل القضاة -فى غالبيتهم- ما يفوق طاقة البشر من ضغوط، ومحاولات ترغيب وترهيب، وسخافات وتصرفات صبيانية أترفع عن الخوض فيها، فلم يفرطوا ولم يستسلموا ولم يتنازلوا عن حقوق الشعب. لك كل الود والتقدير أنتِ وكل أهل مصر الطيبين الذين ما تمنيت أبدا أن أكون بعيدا ولو شبرا واحدا عنهم.
مع خالص الود والتقدير
المستشار هشام البسطويسى