زيارة الرئيس وحدها لا تكفى

نوبة صحيان لإنقاذ السودان

الجمعة، 21 نوفمبر 2008 02:47 ص
نوبة صحيان لإنقاذ السودان الرئيس مبارك مع البشير فى زيارته الأخيرة للخرطوم
يوسف الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄الخرطوم فى انتظار دعم سياسى وجوبا تنتظر مشاريع تنموية وقنصلية مصرية
◄إذا تحقق الاستقرار فى السودان تحقق فى مصر وإذا ضاعت السودان ضاعت مصر

من المتعين النظر إلى زيارة الرئيس حسنى مبارك، الخاطفة لكل من الخرطوم وجوبا، باعتبارها نوبة صحيان مصرية طال انتظارها لإنقاذ السودان من شفا التقسيم والضياع، وانعكاس وقع الكارثة لا قدر الله على مصر، خاصة ويحكم علاقات البلدين ما يشبه «ميكانيزم» النظرية العلمية المعروفة بالأوانى المستطرقة، فما إن يتحقق الاستقرار والازدهار فى مصر، أو تبتلى بالعدوان والكوارث، إلا ويتداعى لها السودان تلقائيا و.. العكس كذلك صحيح.

على أن زيارة مبارك للخرطوم تتسم بالأهمية السياسية العاجلة، عبر التنسيق المشترك بين البلدين، إزاء معالجة إشكالية قرار المحكمة الجنائية الدولية الخاص باستدعاء الرئيس عمر البشير أو ملاحقته بتهمة الضلوع فى ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية فى دارفور، أما غيرها من الإشكاليات والقضايا المشتركة بين البلدين، فلم تتسع ساعات الزيارة لبحثها، وجرى إحالتها بالتالى إلى الحكومتين. على أن عنصر المفاجأة بأى معيار سياسى يكمن فى زيارة مبارك، التى لم يتوقعها أى من المراقبين لعاصمة الدولة الجنوبية الوشيكة فى جوبا، ومباحثاته مع رئيس حكومتها سلفاكير، الذى يشغل فى الوقت نفسه زعامة الحركة الشعبية، ومنصب النائب الأول للرئيس السودانى، وتندرج بالضرورة فى إطار تعزيز معادلات الأمن القومى الاستراتيجى لدولتى وادى النيل وهى السابقة الثانية بعد زيارة جمال عبدالناصر لجنوب السودان عام 1962، وكانت مختلف الأحزاب الشمالية بما فيها حزب الأمة قد فوضت جمال عبدالناصر فى الحديث باسم السودان فى مفاوضاته مع الإنجليز حول الجلاء عن وادى النيل، بينما لم يصله تفويض سياسى من الجنوب الذى لم يكن قد عرف الأحزاب بعد، ولذلك توجه صلاح سالم إلى الجنوب وحصل على تفويض ضمنى من سلاطين القبائل وفوت على الإنجليز تلك الحجة.

كان صلاح سالم قد شدد على استنكاره علانية للمفتش الإنجليزى على معاملته السيئة لأبناء الجنوب، بحكم أن مصر كانت شريكة بريطانيا - ولو صوريا - فى الحكم الثنائى للسودان، وكان هذا الموقف الشجاع من صلاح سالم مثار إعجاب الجنوبيين وتسهيل مهمته السياسية فى الجنوب. ولعلنا نحسب كذلك أن زيارة مبارك لجوبا ولو أنها جاءت متأخرة نسبيا، فإنها كانت بادرة إيجابية لترطيب الأجواء التى اكفهرت إثر فض اعتصام السودانيين فى ميدان مصطفى محمود بحى المهندسين فى القاهرة، وسقوط ضحايا معظمهم من أبناء الجنوب والغرب وجبال النوبة.

على أنه مهما تفاقمت تجاوزات هؤلاء النازحين إثر تقاعس المفوضية الدولية لشئون اللاجئين عن تحقيق رغباتهم فى اللجوء إلى أمريكا وأوروبا وأستراليا، ومهما كانت شكوى سكان حى المهندسين جراء إقامتهم ومعايشهم ونومهم فى الميدان، ومهما تتابعت مبادرات السيد الصادق المهدى إمام الأنصار ورئيس حزب الأمة وفاروق أبوعيسى رئيس اتحاد المحامين العرب، آنذاك وكثير من الزعامات بفض الاعتصام، وكذا العرض الذى تقدمت به الجهات المصرية الرسمية، لإيوائهم ودمجهم فى المجتمع المصرى.. إلا أن مختلف هذه الجهود ذهبت سدى. ومع ذلك كان المطلوب من الأمن المصرى ألا يتورط فى فض الاعتصام بالقوة كما حدث، قبل إدراك أبعاد الشخصية السودانية، ودراسة الظروف القاسية لهؤلاء اللاجئين المروعين لعشرين عاما مضت، بويلات الحرب الأهلية، وبالفقر المدقع والأوبئة ومرارات التهميش، حتى باعوا كل ما يملكون، وكابدوا كلفة ومشاق السفر وعائلاتهم برا ونهرا وجوا إلى القاهرة، على أمل الانعتاق من الظلم والمهانة، واللحاق بفرص الكرامة والعيش الآمن الشريف.

الأكثر عجبا وأسى أن يسقط غيرهم من المهمشين فى السودان ضحايا طلقات حرس الحدود، خلال محاولاتهم التسلل من سيناء إلى إسرائيل، وبعدها يظل الذين أفلتوا مدعاة للإهانة فى إسرائيل، بالتزامن مع تبجحها الدعائى باعتبارها الواحة التى يتفيأ المظلومون والمضطهدون فى ظلالها الحرية والديمقراطية، فى الوقت الذى تواصل فيه التنكيل بالفلسطينيين ليل نهار. وأيا ما كانت الاجتهادات والرؤى فى هذا الشأن الحيوى، بات على النظام الحاكم معالجة الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية المتدنية، مما وصم السودان بالدولة الطاردة لشعبها، على نحو خمسة ملايين مواطن من النازحين واللاجئين فى الخارج، وبينهم زهاء أكثر من مليونين فى مصر وحدها، وبينهم المثقفون والعلماء والأطباء والمدرسون والصحفيون والأيدى العاملة، الذين يحتاجهم السودان فى مشاريع التنمية والنهوض. على أى حال كان أول تصريح فى أعقاب زيارة مبارك لجوبا على لسان سلفا كبير، الذى أعلن فتح أبواب الجنوب أمام المستثمرين والعمالة المصرية، وهم كانوا غادروا الجنوب خشية ما لا تحمد عقباه من عمليات انتقامية جراء فض اعتصام السودانيين الجنوبيين!

فإذا عدنا بالتاريخ إلى عهد محمد على، نجد أنه أول من وضع كيان السودان على خريطة العالم موحدا، بعد قرون سحيقة من الخلافات القبلية والانقسامات الجهوية، وأسس للسودان قاعدة ومنشآت خدمية، بل كان معظم الجيش المصرى آنذاك من أبناء الجنوب وجبال النوبة وقبيلة الشايقية، واختار الجنرال الفرنسى سيف بعد اعتناقه الإسلام وأصبح اسمه سليمان باشا الفرنساوى، حتى يتعهد المصريين والسودانيين بالدراسة والفنون العسكرية فى أسوان!
ومحمد على كانت له مبادراته فى نشر التعليم المدنى فى شمال وجنوب السودان، وحتى تطور هذا الدور إلى حد فتح أبواب التعليم بالمعاهد والجامعات المصرية والأزهر الشريف أمام المئات من أبناء الجنوب، إبان عهد الخديو إسماعيل حيث شهد الجنوب توسعا فى بناء المدارس والمساجد وأتاح للجنوبيين فرصة شغل الوظائف المحلية والأمنية والعسكرية والقضائية والولائية.

وقد تصاعدت فاعلية الدور المصرى فى جنوب السودان إثر زيارة الصاغ صلاح سالم عضو مجلس ثورة 23 يوليو، وبصحبته الشيخ حسن الباقورى وزير الأوقاف، ومشاركته قبيلتى الدينكار والنوير طقوس الرقص الشعبى فى الاحتفاليات التى رحبت بقدومه، وشجاعته وجرأته على أختراق قانون «المناطق المقفولة» الذى حرم الإنجليز بموجبه دخول السودانيين الشماليينن وكذا المصريين من دخول الجنوب، فى الوقت الذى أباحوا لمنظمات التبشير الاستعمارية تنصير الجنوبيينن والحديث باللغة الإنجليزية وتسمية أولادهم بأسماء غربية، وهى كانت مقدمات تمهيدية لفصل جنوب السودان عن شماله، وبناء كيان مسيحيى زنجى يقف حجر عثرة أمام تواصل العرب والمسلمين بأفريقيا والأفارقة. وإذا كانت مقولة «الدنيا سلف ودين» وانعكاس مصداقيتها على العلاقات بين الأفراد، فقد ظلت حاضرة على صعيد العلاقات التى تربط مصر بجنوب السودان، فلما كان قرار الإنجليز إخلاء الجيش المصرى من السودان، عندئذ اندلعت ثورة اللواء الأبيض فى السودان ،بزعامة الضابط الجنوبى على عبداللطيف وأعوانه من أبناء قبيلة الدينكا، وأعلنوا العصيان، والتضامن مع الشاب المصرى الذى اغتال سيرلى ستاك سردار الجيش المصرى!

وجارنج أول زعيم جنوبى يحظى بشعبية واسعة فى مصر، وتربطه صداقات حميمة مع نخبها السياسية والثقافية، وهو قد نجح فى التعريف بقضية الجنوب وجذورها وخصوصياتها، ومن هناك كان حضور الدولة المصرية مراسم تشييعه إلى مثواه الأخير فى جوبا إثر سقوط الطائرة الرئاسية اليوغندية التى حملته إلى الجنوب، وهى نفس اللمسة الإنسانية التى بادر إليها الرئيس مبارك عبر زيارة ضريح جارنج بكل أبعادها السياسية الإيجابية!

وإذا كان جارنج قد وجه قواته إلى تدمير أكبر حفارة فى العالم، كان يواصل العمل فى حفر قناة جونجلى عام 1983، فمن المتعين النظر إلى ذلك الحادث فى حومة الحرب الأهلية، بين الحركة الشعبية ونظام نميرى الحاكم للسودان عهدئذ، ولعله من حسن الطالع إبداء سلفا كير عدم ممانعة حكومته فى إعادة حفر قناة جونجلى مجددا، ولعلها نقطة التقاء سياسى واقتصادى تكاملى عبر ما توفره من زيادة حصة السودان ومصر من مياه النيل بكمية تتراوح ما بين أربعة إلى سبعة مليارات متر مكعب، بينما السؤال الذى يطرح نفسه عن قدرات وإمكانات السد العالى على تخزين هذا الكم الهائل من مياه النيل فى بحيرة ناصر، فى الوقت الذى تعلن وزارة الرى المصرية أن الخطر بات يهدد السد العالى ومصر، كلما ارتفع منسوب النيل إلى 170 مترا.

من هنا كانت زيارة مبارك لجنوب السودان، بمثابة رد الهجوم الذى يتربص بالعمق الجنوبى الاستراتيجى للأمن القومى المشترك لكل من مصر والسودان، وسط مشاهد التدخلات الأجنبية والإسرائيلية التى تسعى إلى موضع قدم لنفوذها، وكذا الشائعات التى تتواتر تباعا حول عمليات تهريب السلاح الثقيل إلى الجنوب، وما الباخرة الأوكرانية التى تحمل على ظهرها زهاء 35 دبابة وغيرها من الذخيرة وبطاريات المدفعية، وجرى اختطاف القراصنة الصومالين لها، إلا دليلا دامغا على المؤامرة الإمبريالية الكبرى التى تستهدف وحدة السودان، وهو الهدف الاستراتيجى الذى سعى مبارك إلى تعزيز تياراته، بحيث يكون جاذبا لأبناء الجنوب عندما يحين موعد الاستفتاء على حق تقرير المصير عام 2011، عبر تقديم مصر ما وسعها من الإمكانات للجنوب، بداية من تخصيص مئات المنح الدراسية فى الجامعات المصرية لأبناء الجنوب، وإفتتاح فرع لجامعة الإسكندرية فى جوبا، وتزويدها بعدد من محطات توليد الكهرباء والإسهام بدور فى مشاريع التنمية الزراعية، وكذا تنمية موارد النيل، وافتتاح أول قنصلية فى جوبا!

وربما كان على الرئيس مبارك أن يواصل زياراته ومباحثاته بعد السودان فى بقية دول حوض النيل السبع، عبر التوصل سلميا إلى اتفاقية موحدة تضمن الاقتسام العادل لمياه النيل، رحلة الألف ميل، بدأت على حد الظن المتفائل بزيارة مبارك للسودان واستعادة ما فات الدور المصرى أفريقيا وإلا بات السودان وحيدا فى مواجهة التحديات المدلهمة من كل حدب وصوب، وذلك أن ضياع السودان ضياع لمصر لا قدر الله!.

لمعلوماتك..
1953 تم الاتفاق على حق تقرير المصير، احتراما لرأى شعب السودان وأملا فى أن يقوم اتحاد بين الدولتين.
1995 وقع حادث اغتيال الرئيس مبارك فى أديس ابابا، واتهم النظام السودانى وقتها بتدبير تلك العملية، وتم على أثرها قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر والسودان.
1899 تم توقيع اتفاقية الحكم المشترك التى أسست حكما ثنائيا مصريا بريطانيا على السودان.
1936 تم توقيع معاهد الاستقلال المصرى مع بريطانيا وتضمنت أحكاما تتعلق بالسودان، وعلى أثرها تم فى السودان تكوين مؤتمر الخريجين عام 1938.
1947 قدمت مصر شكوى لمجلس الأمن، مطالبة بإنهاء الوضع الإدارى القائم فى السودان معتبرة ذلك خطرا على مصالحها.
1951حكومة الوفد المنتخبة ضاقت بالموقف البريطانى، لذلك قررت إلغاء معاهدة 1936 وتصفية الحكم الثنائى فى السودان.
1952 قامت الثورة فى مصر، واتخذت نهجا مختلفا فى التعامل مع الملف السودانى، واصلت تفاوضا مع حزب الأمة.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة