هذه ليست قصة خيالية، وإنما هى مأساة حقيقية يعيشها أحمد عبدالله عبدالرحمن - السائق - بمرفق إسعاف رأس غارب بالبحر الأحمر، مغترب ويعيش فى شقة بالإيجار مع زوجته وأطفاله الثلاثة، مع بساطته وفقر حاله، يصر أحمد على تعليم أولاده، حيث إن أكبرهم فى الصف الثالث الابتدائى وأصغرهم فى الحضانة. يحاول هذا الرجل أن يعيش شريفاً، وأن يحيا حياة كريمة هو وأسرته، ولكن يبقى السؤال: هل الكرامة والشرف والحياة الآدمية يمكن أن تتاح لموظف أجبر على أن يكون دخله، وراتبه الشهرى 6 جنيهات و45 قرشاً. نعم هذا الرقم صحيح وغير مبالغ فيه، ستة جنيهات مصرية وخمسة وأربعون قرشاً فقط لا غير. بعد إنهاء إحدى المهام التى يقوم بها أحمد لنقل حالة من مستشفى الدمرداش بالقاهرة، تعرض هو وسيارة الإسعاف التى يقودها لحادث على الطريق، العناية الإلهية أنقذت أحمد، وتهشمت سيارة الإسعاف، ولأننا كنا نعتقد أن سلامة البنى آدم بالدنيا، اكتشفنا - مع قصة أحمد- أن هذا الاعتقاد خطأ فاحش، لأن بقاء أحمد على قيد الحياة سيكلفه السجن والفقر، وضياع مستقبل أولاده، وعجزه، وإحباطه، وقهره. تم قيد الحادث فى جنح عتاقة بالسويس تحت رقم 82 لسنة 2005، المفاجأة أنه تمت إدانة أحمد فى هذا الحادث، وأرسلت السيارة إلى التوكيل الخاص بها، وتم إصلاحها بعد عام بمبلغ 65038 جنيهاً، ورغم ضخامة تكلفة إصلاح السيارة، إلا أن الواقعة منطقية حتى هذا الحد، ولكن ما هو آت يفوق كل التخيلات.
الطبيعى فى مثل هذه الحالات اللجوء إلى القانون رقم 47 للعاملين بالدولة فى الفقرة الخاصة بالحجز على أجور العاملين، والتى لا تبيح الحجز إلا فى حدود الربع الصافى من المرتب، ولكن المسئولين بالبحر الأحمر كان لهم رأى آخر. فوجئ السائق أحمد عبدالله بخصم 286.26 جنيه شهرياً، وبذلك يكون المتبقى من المرتب 6.45 جنيه، أى أنه تم خصم أكثر من 95% من الراتب. المدهش هو أن الراتب الرئيسى لأحمد 291 جنيهاً، أليست حقيقة مؤلمة؟ أم أن الأسرة كانت تعيش بهذا المبلغ، وكان الرضا بالقدر نصيبهم الذى لا يملكون غيره، والحقيقة الأصعب: صدر القرار بخصم هذا المبلغ من راتب أحمد لمدة 19 سنة، أى سيظل بهذا الراتب حتى خروجه على المعاش. بالطبع لم يملك الرجل سوى أن يرفض استلام راتبه مطالباً الجهات المختصة بتطبيق القانون، وكانت استجابة مدير الصحة والسكان بالبحر الأحمر، وتم خصم ربع الراتب فقط، واستمر ذلك حتى شهر أغسطس 2007، وعاد بعدها الأمر إلى سابقه، وترك له المسئولون رأفة بحاله، 18 جنيهاً و25 قرشاً، وسبب هذا التغيير - كما يقول أحمد عبدالله - هو قرار مدير عام الإدارة المركزية لحسابات الحكومة، والذى لا يمكن مخالفته، فإما القبول أو السجن، بأى حياة تلك التى تحياها أسرة بـ18.25 جنيها.
وصلت درجة اليأس لدى أحمد عبدالله إلى حد أنه تمنى لو قضى نحبه فى هذا الحادث، وقتها كانت ستصرف التعويضات لأسرته بدلاً من الحياة المريرة التى يعيشها، فهو يعول زوجة و3 أبناء دون أى مصدر للرزق سوى راتبه، أحمد يسير بين الناس منكس الرأس لكثرة استدانته، ويحس بالخزى، والعار، والعجز، وقلة الحيلة أمام زوجته، وأبنائه لأنه لا يستطيع أن يوفر لهم أدنى متطلبات المعيشة. يقول الرجل بغضب: بأرسلت خطابات استغاثة لرئيس الوزراء، وللسيدة سوزان، وللرئيس مبارك، وكل ما حدث هو رسالة رئيس الوزراء بكلمة واحدة بأفيدوناا، وبالطبع لم يفده أحد، كم أتمنى أن يتم سجنى أو اعتقالى، على الأقل، عندما ينفق أخوتى على أولادى، وأنا فى السجن أشرف وأكرم لى من أن ينفقوا على، وعليهم وأنا وسطهم، محسوب عليهم راجل، قال أحمد هذه الجملة باستياء شديد وغضب. لرئيس إدارة الإسعافات بغلطتى إنى ما سرقتش، أو قلبت واحد فى حادثة على طريق، غلطتى إنى شريف، لما لقيت رجل أعمال فى حادثة، ورزم الدولارات مرمية على الأرض، ما أخدتش كام ورقة منها أو حتى ساعته أو موبايله، غلطتى إنى رديت كل الأمانات لأنى أخاف ولادى يأكلوا الحرام، والنتيجة إنى أتسجن أو أتجن أو أسيب عيالى يضيعواا. رد عليه المسئول: وضميرك يرضيك؟ أجابه أحمد بقلة حيلة وغضب: بوإنتوا ضميركم راضيكم إنى أعيش بستة جنيهات أنا وأسرتى؟ هل تستطيع أن تأكل وجبة واحدة بستة جنيهات يا سعادة البيه؟ ولم يسمع أحمد إجابة واحدة على أى من أسئلته؟ غموض شديد فى قضية أحمد عبدالله، يقول إن الذى تسلم السيارة من التوكيل بعد إصلاحها هو موظف من المديرية رغم أنه كان يجب تشكيل لجنة فحص، واستلام للسيارة بعد إصلاحها، كما يؤكد أن المبلغ المقدر لإصلاح السيارة لا يتجاوز 9 آلاف جنيه بشهادة الشهود وزملائه السابقين،ورؤسائه وبمعاينة السيارة بعدالحادث.
السؤال الذى يفرض نفسه: أليس من المنطقى أن يكون هناك تأمين على سيارات الإسعاف وسائقيها؟ رجل أخطأ فى حادث هل يكون عقابه أن يعيش حياة البؤس والذل؟ وما هو مصير أسرة بأكملها لا يستطيع الشخص العائل الوحيد لها توفير أدنى المتطلبات الضرورية للمعيشة ولو حتى ليومين. أسمع أحمد يتحدث عن تفاصيل هذه الكارثة الموجعة التى يعيشها، وأكاد لا أصدق ما يقول، وكلما أظهرت له دهشتى، يقوم هو بإظهار ورقة أو خطاب، أو شكوى، أو صورة من قرار، أو مادة من قانون ليثبت لى بها صحة الواقعة التى تعرض لها. هل تصدق أن هذا يحدث لمواطن لم يرتكب جرماً فى حياته سوى أنه بعاوز يؤكل عياله حلال، ويعيشا. عندما سألته عن علاقته بالبلد، هل تشعر أنك من أصحاب البلد دى سيأتى يوم وتحصل على حقك؟ أجابنى: يا عم أنت بتتكلم عن أى بلد؟ عن بلد عاوزة تموت ولادها. أنا بس عاوز أكون صاحب بيت مستور، ولقمة عيش حلال، وحتى ده ما عرفتش أعمله فى البلد دى.
لمعلوماتك..
291 جنية قيمة الراتب الرئيسى لأحمد.
3 أبناء وزوجة يعولهم أحمد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة