رشا الأمير روائية وناشرة لبنانية، أصدرت منذ سنوات قليلة روايتها "يوم الدين" التى دار بشأنها جدل واسع، مع توالى طبعاتها المختلفة بين بيروت ودمشق والقاهرة، خاصة وأنها تتناول صعود التيارات المتطرفة فى بلادنا العربية، وبينما ينتظر المهتمون بالأدب الرواية الثانية لرشا الأمير، أصدرت بالفرنسية كتاباً للأطفال بعنوان "البلد الصغير".
اليوم السابع حاور رشا الأمير فى السطور التالية...
رشا الأمير، "يوم الدين" روايتك الأولى مكتوبة بعربية متميزة برصانتها .. ما الذى دفعك كى تنتقلى من العربية إلى الفرنسية فى كتابك للأطفال "البلد الصّغير"؟
دفعتنى وتدفعنى، أسئلة اللغات ـ بالجمع ـ العربية بشكل ملحّ ويومى؛ والحظ، ككل الغيورين على حضارة اقرأ، أن بلادنا ولغاتنا وأمزجتنا وأخلاقنا ليست على ما يرام. وأن التشاكى واللطم والبكاء قد فقدوا فعاليتّهم. ما العمل إذن؟ قلت لنفسى يوم اتصلت بى فى نهاية عام 2006 سيّدة سويسرية ألمانية لا أعرفها، طالبة منى أن أكتب لمجلّتها الذائعة الصيت نصاً ما كى تثبت لقرّائها وقارئاتها أن النساء العربيّات يفكّرن ويكتبن أيضاً!
كنت فى ذلك العام، خارجة للتوّ من واحدة من أبشع الحروب التى ذاقها لبنان، حرب جائرة ومدمّرة، يقينى أننى لن أشفى منها فى القريب.
السيّدة السويسرية اللطيفة تمنّت على أن أكتب، أمّا أنا، فقد كانت أمنيتى الوحيدة اللواذ بالصّمت. يومها قلت لنفسى: ما هذا الغرب ! يقصفوننا بالطائرات مرّة، ثم يخطبون ودّنا باليد الأخرى، طالبين من الأدباء الإدلاء بدلائهم الفارغة!
لماذا لم تكتبى عن الحرب على لبنان التى تتألمين منها؟
قلت للسيدة: "لا، لن أكتب"، وأردفت: "لن أكتب بالعربية، فما الذى يضمن لى جودة الترجمة؟" فالمترجم القدير، يوسف الصديق، الذى ترجم الحديث والقرآن، كان أيّامها يعانى الأمرّين، قلت لمحدّثتى إذن: "لا، لن أكتب بالعربية"، فما كان منها إلا أن اقترحت أن أكتب باللغة التى أشاء.
وهكذا كان، نزولاً عند لطفها السويسرى الألمانى، كتبت حكاية "البلد الصغير" بالفرنسية، لغتى الثانية. وبعد أشهر نشر ما كتبت فى مجلّة ديو باللغة الألمانية وقرأه قراء الألمانية والفرنسية وأثنوا عليها، فتحمّست دار الجديد لأن تتبناه كى يصير كتاباً مصوّراً لكل الأعمار.
كيف صار "البلد الصّغير" كتاباً مصورّاً شكله طفل ومضمونه قد يخاطب الكبار قبل الصّغار؟
المتابعون للمشهد النّشرى العربى، يعرفون بلا ريب ما تنتجه دار أصالة وأحمد وقمبز فى لبنان، على صعيد الكتب المصورة.
الكتب المصوّرة، سواء كانت موّجهة للكبار أو الصّغار، هى كتب مترفة بامتياز. كتب تجمع بين دفّتيها حرفاً ومواهب كثيرة وتحتاج إلى ميزانيات باهظة.
وقفت إذن أمام نصّى الفرنسى، ومعى ضوء أخضر وميزانية معلومة من دار الجديد، وأخذت أبحث فى بيروت وما يجاورها من مدن عن رسّام موهوب. وبعد أن اكتشفت الرسّامة دانيال قطّار والمخرجة رندة عبد الباقى، قطعت الميل الأول. أمّا الأميال الأخرى فلا يعرف وعورتها إلا من قطعها! الكتب المعقّدة الراقية تتطلب ما لا يتصوّره مستهلكوها.
أفهم من كلامك أن "البلد الصّغير" كتب بالفرنسية خوفاً من الوقوع فى براثن المترجم، وأنه صار كتاباً مصوراً للكبار والصّغار؟
صحيح، "البلد الصّغير" يمازح الكبار والصّغار وهو "مغامرة نشرية" تضافرت فى صفحاتها مجموعة من المواهب.
من لا يقرأ الفرنسية سيكتفى، فى الوقت الراهن، بتصفح الكتاب الذى يحكى بدعابة مرّة مصير بلد صغير تصادف أن يكون موطنك .. ألم تراهنى على القراء العرب ولو بإشارات متفرقة فى كتابك الفرنسى؟
يوم التقيت بدانيال الرسّامة أقنعتها أن تخترع لشخصية البلد الصّغير ملامح بشرية. أوحيت لها وسامته وعضلاته ووقوفه لساعات أمام مرآته. أردت معها أن نسخر من البلد الصغير صاحب الأنا المتضخمة، غير القادر على الفرار من مصيره وحروبه وصورته.
دانيال ترسم بدعابة وقلب، وأظنها أعطت فى هذا الكتاب أجمل ما عندها، واكبت ريشة دانيال قطّار شاعرية النّص وجدّيته.
فى مصر، فى سوريا ولبنان تجمّعات فرنكوفونية تتراجع عاماً بعد عام أمام ما تربحه الإنجليزية من مواقع. أتخافين من سطوة اللغة الإنجليزية ومن هيمنتها؟
أخاف من سطوة الأمّيين والأمّييات، أخاف من الجهل والتجهيل، أخاف من هيمنة الشفهى والمرئى على المكتوب. العالم، بلا ريب، فى لحظة حرجة.
ذات يوم بعيد، حاولت الإمبراطورية الرومانية فرض لغتها الرسمية، اللاتينية، على كلّ عمّالها وقد فشلت بالطبع؛ ما الذى بقى اليوم من هذه اللغة التى سادت المراسلات الرسمية لقرون؟
لا تُفرض اللغات بالسيف، تماماً كما أن السّلاح وقوّته لا يؤمّنان، وحدهما، الانتصارات. ظهير الإنجليزية فى الوقت الراهن تفوّق أميركا العلمى والاقتصادى والعسكرى، أما إذا اضمحلّ هذا التّفوق، فعلى الهيمنة السلام.
هل تستمرين فى الكتابة بالفرنسية أم تعودين للغتك العربية قريباً؟
أعرف كتّاباً مرموقين كصموئيل بيكت وإميل سيوران، هجرا لغتيهما الأصليتين الإنجليزية والرومانية وكتبا بالفرنسية عن سابق عمد وتصميم. أمّا أنا، ورغم تمكّنى من فرنسيتى وإنجليزيتى، فقرارى مبرم: لن أهجر لغة القلب مهما وهنت وأذلّت ومهما أتقنت غيرها. العربيّة، عربيّتى أنا بلهجاتها، هى لى الأبهر والوريد. للعربية ولكل اللغات المهانة ربّ يحميها، هذا ما يهمسه لى صاحب عزيز اختار، مثلى، العربية بيتاً نهائياً.
يبدو "البلد الصّغير" أشبه بنزوة فى مسارك، أين روايتك الثانية المنتظرة؟
روايتى على الطريق. والطريق متفرع كما تعرف.
وأذكّرك أنّ روايتى الأولى صدرت مرّتين فى لبنان ومرّة فى مصر وأخرى فى الجزائر؟ هل قرئت فى السّر؟ هل أعدم ناشروها نسخهم؟ تمور بى الأسئلة وما من جواب مرض. مخجل وضع القراءة والكتابة فى عالمنا، فدعنى لمزاجى، لبطئى وتلعثمى.
لك تجربة متميزة فى دار الجديد، ما تأثير امتهانك النشر على مسارك الإبداعى؟
مهنة النشر للأسف هى مهنة تكثير كتب أسمعها تئنّ فى المخازن، نائحة على رياء القارئ العربى وفقره ولامبالاته. لذا، ولدنوّى من أوجاع الكتب المطبوعة أتريّث وأماطل قبل أن أرسل كتابى، وهو عزيز، إلى المطبعة ومنها إلى المخزن، حيث سيجهش على غياب قارئ متوهّم!
ما رأيك فى جائزة بوكر العربية، وهل تقدمت بكتب للجنة الجائزة؟
قدّمنا فى دار الجديد كتابين للجائزة: "الحفيدة الأميركية" لإنعام كجه جه و"غبار فى الفضاء" لمازن عبد الله وحيدر صفا، وهو رواية من الخيال العلمى.
الجوائز تفرح من ينالها بالطبع، وقد تعطى دفعة مؤقتة لكتاب ما، غير أن فى فمى ماء كثيراً فيما يخصّ هذا الموضوع، الذى أثار جدلاً واسعاً فى دورته الماضية.
يُطلب من الناشر تقديم الكتب وملء استمارات، ثم حين تدق ساعة الجوائز، لا ينبس أحد بكلمة حول من صيّر المخطوط كتاباً، ويظن الكاتب الفائز أن ساعة الحظ قد حانت، فيقرر الانفصال عن ناشره كى يجنى "الملاليم" بيده ... فتات وملاليم. أمجاد واهية ونميمة لا تعنى إلا أصحابها، أهذا هو مشهدنا الأدبى؟ إن كان كذلك، فاعتبرنى غريبة عنه، وإن وجدت وقتاً كى أصارعه، فأنا عدوتّه اللدود!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة