مؤكد أننى كنت سأحمل السلاح فى وجه بونابرت وعساكره مع المصريين الذين حملوه فى وجوه هؤلاء الغزاة الفرنسيين، رغم كل ما قدموه تبريرا لغزواتهم إذا أردنا أن نتحدث عن الوطنية فيجب ألا نخلط حديثنا عن الوطن بالحديث عن الدين، لأن الانتماء الوطنى شىء، والانتماء للدين شىء آخر.
نحن ننتمى للوطن ،لأن الوطن هو جنتنا الأرضية التى نريد أن نضمن فيها حقنا فى الحياة، وحقنا فى الحرية، وحقنا فى أن نعيش معا كجماعة وطنية، أما الدين فهو طريقنا إلى جنة الآخرة.
ونحن فى الدين نعاهد الله، ونعمل بما يأمرنا به وينهانا عنه، أما فى الوطن فنحن نعاهد الناس ونتفق معهم على ما يحق لنا ولهم وما يجب علينا وعليهم، وهكذا يجب أن نميز بين انتمائنا الوطنى وانتمائنا الدينى.
حين يتعرض الوطن، لغزوة أجنبية يجب علينا جميعا أن نقف فى وجه الغزاة، أيا كانت ديانتهم، لا ينحاز المسلمون منا للغزاة إذا كانوا مسلمين، ولا ينحاز المسيحيون لهم إذا كانوا مسيحيين، وبهذا المنطق نتحدث عن موقفنا من حملة بونابرت على مصر، التى تجدد الحديث عنها بمناسبة المعرض الذى أقيم فى معهد العالم العربى بباريس عن «نابليون ومصر»، والتى يختلط حديثنا عنها وعن غيرها، من وقائع تاريخنا بالحديث عن الدين.
مؤكد أننى كنت سأحمل السلاح فى وجه بونابرت وعساكره مع المصريين الذين حملوه فى وجوه هؤلاء الغزاة الفرنسيين، رغم كل ما قدموه تبريرا لغزواتهم، وما تحلوا به من فضائل تحدث عنها وأشاد بها الذين اتصلوا بهم من المصريين، وفى مقدمتهم الجبرتى.
لم يكن يمنعنى من الوقوف فى وجههم تقدمهم العلمى، أو افتتانهم بالحضارة المصرية القديمة، أو عدلهم فى التعامل مع المصريين، فهم فى البداية والنهاية غزاة، والغزو شر لا يخفف منه ميزة، أو فضيلة، لأنه يسلبنا حقنا المقدس فى الحرية.
وأنا حين أحمل السلاح فى وجه الغزاة الفرنسيين، أحمله بوصفى مصريا لا بوصفى مسلما، لكننى أقول هذا الآن، وبينى وبين هذه الواقعة أكثر من قرنين، تغيرت فيهما الأوضاع والأفكار، أما فى إبانها فأغلب الظن أننى كنت سأقاتلهم باعتبارهم أعداء للإسلام، كما أن المسيحيين المصريين الذين وقفوا إلى جانبهم، أو ارتاحوا لوجودهم فعلوا ذلك بدافع دينى، ولأنهم اعتقدوا أن هؤلاء الفرنسيين سيخلصونهم من اضطهاد الأتراك لهم.
فإذا كانت الحملة الفرنسية قد أيقظت المصريين من سباتهم الطويل، وفتحت عيونهم على عظمة تاريخهم القديم، وأخرجتهم عن عزلتهم ليتصلوا بالعصور الحديثة، ويستعيدوا وعيهم بأنهم أمة، وأنهم مصريون، وأن من حقهم أن يتحرروا ويستقلوا ويقفوا صفا واحدا، مسلمين ومسيحيين فى وجه الغزاة، كما فعلوا بعد ذلك مع الإنجليز فى ثورة 1919، رافعين شعارهم المقدس: الدين لله، والوطن للجميع! إذا كان المصريون قد عادوا مصريين ينتمون لوطنهم ولا يجعلون اختلافهم فى الدين حائلا بينهم وبين الاتحاد فى الوطن، وأصبحوا ينظرون لتاريخهم من هذه الزاوية فلا يرون نابليون بونابرت إلا غازيا معتديا، بصرف النظر عن دينه أو سياسته، فمن واجبهم أن ينظروا لتاريخهم كله هذه النظرة.
ما الذى يبرر لسليم الأول التركى، أن يستولى على بلادنا، ويدمر استقلالنا، وينزح ثرواتنا، ويقذف بنا فى عصور الظلام والهمجية أربعة قرون متواصلة؟
نعم سليم الأول كان مسلما، لكن الإسلام لا يبرر له أن يستولى على بلادنا، ولا يبرر لمن استسلموا له أن يفرطوا فى حق بلادهم، ومن العجيب أن نجد اليوم مصريين ناقصى الوطنية، يخلدون ذكره، هذا الطاغية، ويسمون الشوارع باسمه فى بلادنا التى صنع فيها ما صنع، والأعجب من ذلك أن نجد من هؤلاء من يترحم اليوم على الخلافة العثمانية، ويسعى لإحيائها من جديد!
سليم الأول ليس أفضل من نابليون بونابرت، لا عندى ولا عند المؤرخين المصريين الذين حدثونا عنهما، وإذا أردت أن تقرأ عن العثمانيين الذين دخلوا مصر، فاقرأ ما كتبه ابن إياس عنهم وعن همجيتهم و«عفاشتهم» كما يقول، ولقد حفظ لنا «بن إياس نص الرسالة التى بعث بها سليم لطومان باى، آخر سلاطين المماليك فى مصر يطلب منه أن يستسلم له ويدخل فى طاعته «وإن لم تدخل إلى طاعتنا أدخل إلى مصر وأقتل جميع من بها فى المماليك، حتى أشق بطون الحوامل وأقتل الجنين الذى فى بطنها»!
وقبل بضع سنوات احتفلت بعض الهيئات الثقافية المصرية بفتح العرب لمصر، هذا الحدث الذى أخرج بلادنا من تاريخها القديم، ووضعها فى تاريخ آخر وفى حضارة أخرى، تبناها المصريون واعتنقوا دينها وتكلموا لغتها وصاروا جزءًا من العالم الذى أنشأته، لكنى أسأل نفسى عما كنت سأفعله لو أنى عاصرت الفتح العربى، ورأيت هؤلاء الغزاة القادمين من الجزيرة العربية يدخلون بلادى بالسيف، ماذا كنت أصنع؟ وجوابى البديهى أننى كنت سأواجههم بالسيف، كما كنت سأواجه نابليون وجنوده، وسليم وجنوده، ويوليوس قيصر، والإسكندر، وقمبيز.
نعم، كان العرب الفاتحون يحملون معهم دينا جديدا يحض على الخير ويبشر بالعدل والتسامح، وكانت مصر فى ذلك الوقت ولاية بيزنطية بعد أن فقدت دولتها الوطنية، وخضعت للبيزنطيين الذين كانوا يضطهدون الكنيسة المصرية الوطنية، وهى ظروف وأوضاع يسرت للعرب فتح مصر، فلم يقاومهم إلا الروم البيزنطيون، أما المصريون فكانوا إلى حد كبير محايدين، وربما ساعد بعضهم الفاتحين العرب، وربما قاومهم بعضهم، فإلى أى فريق من هؤلاء كنت سأنضم؟جوابى أننى كنت سأنضم للمقاومين، لأن العرب فى ذلك الوقت لم يكونوا إلا غزاة أجانب.
ولست أنكر الفرق بين غزوة نتعرض لها فى العصور القديمة التى لم تكن فيها الفكرة الوطنية قد نضجت، وكان الانتماء فيها للقبيلة والدين، وغزوة نتعرض لها فى العصور الحديثة، بين غزوة خسرنا فيها الكثير كالتى أوقعتنا فى أيدى الترك، وغزوة استفدنا منها كالتى دخل فيها الفرنسيون بلادنا، لكن الغزاة يظلون غزاة متوحشين كانوا أو متحضرين، فإذا كنا نتحدث عما خسرناه مع الترك وما كسبناه مع الفرنسيين، فنحن نرصد أحداثا تاريخية لا نبرر ما فيها من سلب ولا ننكر ما فيها من إيجاب!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة