«هؤلاء الذين يستبدلون الحرية بالأمن لا يستحقون أيا منهما»، هذه الكلمات التى قالها فى القرن الثامن عشر الرئيس الأمريكى الأسبق بنجامين فرانكلين، تجعل ما يحدث اليوم سُبّة فى جبين أمريكا، وعارا على الحكومات العربية، وخزيا على الإرهابيين الذين يقتلون المدنيين.
هذا هو أكبر التحديات التى ورثها باراك أوباما عن بوش الصغير، أكبر حتى من كارثة الانهيار الاقتصادى، لقد سمعنا عن حضارة فقيرة، لكننا لم نسمع من قبل عن «حضارة» بلا أخلاق.
يستمد هذا المقال عنوانه من الموقف الراهن المتعلق بما يوصف بالحرب على الإرهاب. وقد استوحيته أساسا من ملاحظة أبداها لى رجل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مايكل شوير، الذى كان حتى وقتٍ قريب مسئولا عما يسمى «محطة ألِك» (ألِك هو اختصار لأليكس، وهو اسم أحد أبناء هذا الرجل)، وهو الاسم الحركى لوحدة متكاملة تضم ضباطا وخبراء من وكالة الاستخبارات المركزية (سى آى إيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالية (إف بى آى) ينصبّ لديها كل ما يتعلق بأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة والإسلاميين عموما، وتقع موقع القلب مما يوصف بالحرب على الإرهاب.
ولأن شوير ضابط واقعى يتحلى بكثير من خصال الفروسية فإن رغبته الجامحة فى الانتقام من أسامة بن لادن لا تمنعه من إبراز احترامه له كرجل أعرض عن الدنيا وما فيها، وقصد إلى التعامل مباشرةً مع حكام بلاده الذين يراهم فاسدين، وبهذا يضع شوير يده على ضلعين من أضلاع المثلث: الإسلاميون والحكومات العربية، أما الضلع الثالث فهو أمريكا التى لا تكف عن حشر نفسها بين هذين الضلعين، وفقا لرؤية شوير لمواقف الإسلاميين، وذلك من خلال دعمها الأمنى والسياسى والاقتصادى لأنظمة يراها هؤلاء أنظمة فاسدة، وهو ما يتوافق مع تحول أجندة بن لادن من العداء المباشر لآل سعود إلى اقتناعه بأنه لن يستطيع التعامل معهم قبل أن يقوم أولا بتحييد الموقف الأمريكى على أمل إخراجه من المعادلة. وهو أيضا ما يجد صداه فى تحول موقف تنظيم الجهاد الإسلامى المصرى بزعامة أيمن الظواهرى من الفعل الداخلى المحدود إلى الفعل الخارجى غير المحدود.
يزداد الموقف حدةً عندما تدخل اعتبارات الأجندة الإسرائيلية دافعا للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وللطامحين سياسيا فى واشنطن. لكنّ المفارقة فيما يتعلق بهذه النقطة أن رؤية شوير -وهو مسيحى وطنى يحتقر المحافظين الجدد والصهاينة-تتفق تماما مع رؤية بن لادن؛ الأمر الذى أجبره فى النهاية على تقديم استقالته والتصريح لى بأنه «بعد 23 عاما من الخدمة فى الدوائر الحكومية الأمريكية أستطيع أن أقول لك إن ما يتردد عن أن إسرائيل تجر السياسة الأمريكية من أنفها ليس بعيدا عن الصواب»، الأمر الذى يتوافق أيضا مع تطور أولويات بن لادن فى أعقاب حرب الخليج من شعار «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» إلى تصريحه التليفزيونى المرعب: «أقسم بالله، لن تحلم أمريكا بالأمن حتى نعيشه واقعا فى فلسطين» فى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر.
غير أن استقالة هذا الرجل أتت وقد التهبت أضلاع المثلث من جراء مشروع سرى أثار - ولا يزال يثير - كثيرا من الجدل، كان هو أول من بدأ تطبيقه حتى أنه يشار إلى شوير الآن بأنه أبوه، يعرف هذا المشروع السرى على نطاق واسع الآن باسم «برنامج الترحيل غير العادى» Extraordinary Rendition Program، وتبدأ قصته فى أواسط التسعينيات عندما طلب بل كلينتون وساندى بيرغر وريتشارد كلارك من وكالة الاستخبارات المركزية البحث عن طريقة للتخلص من الإسلاميين الذين انتشروا فى أرجاء مختلفة من العالم بعد انتهاء الجهاد فى أفغانستان والبوسنة ومناطق أخرى ملتهبة. ولأن قواعد عمل وكالة الاستخبارات المركزية لا تخوّلها سلطات إلقاء القبض ولا الاحتفاظ بسجون أو معتقلات داخل أمريكا أو خارجها فقد بدأت عندئذٍ صفحة جديدة فى تاريخ الوكالة شابها كثير من المشكلات العملية والإجرائية والقانونية، وأيضا الأخلافية.
فى محاولة للالتفاف حول تلك المشكلات قامت الوكالة بتشكيل فرق اختطاف سرية وضعت لها قواعد عمل سرية أقرب ما تكون إلى قواعد عمل المافيا، واستحلت لنفسها اختراق سيادة أى دولة يتصادف أن يكون الهدف على ترابها (مع إمكانية التعاون مع سلطات تلك الدولة إذا سمح الوضع الاستخباراتى)، مستخدمةً أثناء ذلك طائرات نقل صغيرة مستأجرة من شركات أمريكية خاصة. ورغم أن من المعروف أن التعاون الأمنى بين معظم الدول العربية والولايات المتحدة كان دائما على مستوى مرتفع لا يتأثر عادةً بدرجة حرارة العلاقات الدبلوماسية أو التفاهم السياسى، فإن تلك كانت وثبة عملاقة أتت على هوى كثير من سلطات الدول العربية التى كانت تتوجس خيفةً من معارضيها فى الخارج خاصةً بعدما صار بعضهم جزءا من عضلة إسلامية لا تعترف بالحدود.
وبما أن جانبا من هؤلاء لجأ إلى دول غربية متحضرة لا تعترف بأحكام المحاكم العسكرية التى صدرت بحق بعض من لجأ إليها، فقد عمدت وكالة الاستخبارات المركزية فى البداية إلى التركيز على هذا النوع من الناشطين الإسلاميين فوجدت من سلطات الدول العربية تعاونا غير مسبوق كان من أهم ملامحه إمداد الوكالة بقوائم المطلوبين والمشتبه بهم مع ملفات استخباراتية مفصلة، واستعداد هذه الدول لاستقبال من تتصيده الوكالة وإيداعه فى معتقلاتها وإطلاع الوكالة على ما يُنتزع منه من معلومات قد يحتاجها الأمريكيون، وإمعانا فى الالتفاف حول القوانين الدولية وقواعد حقوق الإنسان وافقت بعض الدول العربية على إصدار «ورقة توت» فى شكل مرسوم دبلوماسى للدول التى يتم اختطاف المعارضين من على أرضها تتعهد فيه بـ «احترام حقوق» الذين يتم ترحيلهم إليها.
غير أن تطبيق هذا المشروع السرى بدأ يتخذ منحى أعنف ومدخلا أجرأ وطابعا لا يتسم بكثير من الحياء فى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر، وكان أول ضحاياه معارض إسلامى مصرى يدعى أحمد عجيزة كان قد لجأ إلى السويد، وكان قد حُكم عليه غيابيا بالسجن المؤبد من قبل محكمة عسكرية فيما يعرف بقضية «العائدون من ألبانيا» التى كان على رأس متهميها أيمن الظواهرى، أضاف الأمريكيون إلى عملية الاختطاف نفسها التى نفذت فى ديسمبر 2001 - صديقا له، هو محمد الذرى، رغم أنه لم يكن محكوما عليه.
يتوالى هبوط أشباح وكالة الاستخبارات المركزية على أرجاء مختلفة من العالم فى عمليات خاطفة تنتهى عادة فى معتقلات الدول العربية التى اتسعت أيضا لمخطوفين من غير مواطنيها، فى رأى أحد عملاء الوكالة: «إذا لزم الأمر فدع الحثالة تقوم بدلا منك بالأشياء القذرة»، ولكن سرعان ما يجد الأمريكيون أنفسهم مضطرين إلى أن يقوموا بأنفسهم بكثير من هذه «الأشياء القذرة» فيستحدثون سجونا ومعتقلات معلنة فى جوانتانامو وأفغانستان والعراق، وأخرى سرية فى أوروبا، وسرعان أيضا ما يقع الأمريكيون فى أخطاء جسيمة كانت معدة المواطن الأمريكى قادرة على ابتلاعها فى أعقاب مأساة الحادى عشر من سبتمبر، لكنها تحولت مع مرور الزمن إلى عقدة أخلاقية وإحساس بالذنب كل مرة يتسرب خبر عن أساليب التعذيب المبتكرة التى تمارسها الوكالة وعملاؤها وحلفاؤها باسم الشعب الأمريكى.
فى الوقت نفسه كان تنظيم القاعدة يتطور رغم أنفه من مجرد «تنظيم» صغير نشأ فى جبال أفغانستان إلى «فكرة» انتشرت فى أرجاء مختلفة من العالم حتى فى قلب أوروبا وأمريكا استوحاها بعض المتطرفين حتى وجد بعض المغرضين فى هذا التطور ذريعة لمد أمد ما يوصف بالحرب على الإرهاب إلى ما لا نهاية، يدخل الإسلام -شاء أو أبى- إلى أتون الحرب، ويصير المسلم (خاصةً العربى) مطالبا بتبرير وجوده. ولأننا إذن بإزاء «حرب» من نوع جديد لم يعهده العالم من قبل فإن من المعذور ارتجال القواعد والقوانين، وهذه يسنها دائما من يملك القوة والسلطة. لحسن الحظ رغم ذلك أن القوة دائما إلى ضعف وأن السلطة لم تدم يوما لأحد.
فى هذا الإطار تشتعل عن حق أو عن غير حق نظريات المؤامرة، وفى هذا الإطار أقوم بالاتصال بأحد مطاعم البيتزا: «فونجى بالشطة لو سمحت» وأنا أستمتع بأحد أفلامى المفضلة، فيلم «الديكتاتور العظيم» The Great Dictator الذى أنتجته هوليوود عام 1940 دفاعا عن اليهود الذين كان يتربص بهم هتلر، بينما يتقدم بطل الفيلم تشارلى تشابلن، كى يلقى كلمته أمام حشد من الجنود يمكننا أن نفهم كلماته مرةً من منظور الإسلاميين، ومرةً من منظور الحكومات العربية، ومرةً من منظور أمريكا، ثم مرةً أخرى من منظور الإنسان أينما كان. عبقرية هذه الكلمات أنها قيلت قبل نحو 70 عاما ولا تزال صالحة اليوم، وربما ستبقى هكذا حتى يرث الله الأرض وما عليها:
«... أنا آسف، لكننى لا أريد أن أكون إمبراطورا؛ ليس هذا من شأنى، لا أريد أن أحكم أحدا أو أن أغزو بلاد أحد، أريد فقط أن أساعد الجميع إن استطعت: يهوديا أو غير يهودى، أبيض أو أسود، كلنا نريد أن يساعد بعضنا البعض الآخر؛ هذه هى فطرة البشرية.. سبيل الحياة يمكن أن يكون حرا وجميلا لكننا أضعنا السبيل.. سمم الطمع أرواح الرجال وغلّف العالم بالكراهية وألقى بنا إلى بؤس وأنهار من الدم.. وحتى فى هذه اللحظة التى يصل فيها صوتى إلى الملايين حول العالم، الملايين من الرجال الذين تمكّن اليأس منهم، إلى النساء والأطفال العاجزين، إلى ضحايا نظامٍ يدفع الرجال إلى اعتقال الأبرياء وتعذيبهم، إلى هؤلاء الذين يسمعوننى أقول: (لا تيأسوا)، إن البؤس الذى حل بنا ليس سوى إحدى إطلالات الطمع، ليس سوى مرارةٍ تمكنت من رجال يخشون تطور البشرية، ستنقشع الكراهية وسيموت الطغاة وستعود السلطة التى استلبوها من الناس إلى الناس، وطالما يموت الطغاة فإن الحرية لن تفنى.. أيها الجنود لا تسلموا أنفسكم إلى البهائم، لا تسلموا أنفسكم إلى هؤلاء الذين يحتقرونكم ويستعبدونكم، إلى هؤلاء الذين يسيطرون على أقداركم ويملون عليكم أفكاركم ومشاعركم ويعاملونكم كالقطيع.. إنكم لستم قطيعا؛ إنكم رجال.. فى قلوبكم حب البشرية؛ فلا تكرهوا، فقط الذين لا يحبهم أحد قادرون على الكراهية..»
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة