التقيته فى بهو أحد الفنادق فى تيرانا عاصمة ألبانيا قبل ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً.
معروف هو بهيئته الضخمة وشعره الأبيض وصورته التى لطالما رسمتها له الصحف المصرية عن مغامراته ومقاولاته ومحاولاته العودة إلى النادى المصرى من حين إلى آخر.
بادرته بالسلام فأنا أعرفه وهو بالطبع لا يعرفنى
أهلاً وسهلاً، الحمد لله إنى لاقيت حد أتفاهم معاه، أنا عمال أفهم الأخت (يقصد موظفة الاستقبال فى الفندق) وهى لا بتعرف إنجليزى و لا عربى.
كان الرجل يبحث عن محل للنظارات لأن نظارة القراءة الخاصة به قد كسرت.
كلمة من هنا وكلمة من هناك، ثم صارت صداقة.
كان يزور تيرانا مرة أو مرتين كل شهر لتنفيذ بعض مشاريعه الإنشائية.
كانت سمعة الرجل تسبقه، لكن الحديث عنه فى بعض الصحف المصرية كان مثيراً للتساؤلات خصوصاً زواجه من الفنانة المعتزلة سهير رمزى.
اطمأن الرجل إلى حسن صحبتى وكلما وصل إلى تيرانا اتصل بى لنتناول الغذاء أو العشاء ثم نذهب معاً لنتفقد المشاريع أو أزوره فى المكتب أو يزورنى فى العيادة التى كنت أديرها هناك.
وذات يوم وبينما نتناول الشاى فى الفندق الكبير فى العاصمة وجدت الحاج سيد يحكى لى قصته. كانت الصورة مختلفة تماماً قبل أن يحكى ويسرد دون أى سؤال منى، فهو حسب الصحافة المصرية رجل عليه شبهات!!
على مدار عامين أو أكثر لم أره يشرب سيجارة أو شيشة أو أى نوع من الكحوليات، وهو فى بلد غربى ورجل مقاولات.. وحين جاء الحديث عن النساء قال لى: لم أعرف الحرام يوماً ما ولم استسغه، وكل ما فى الأمر أننى كنت أبحث عن السعادة مع زوجة ما.. وتزوجت غير مرة.. وانتهت زيجاتى بسلام.. بيد أن الصحافة وجدت فى جثتى ما تلقى به إلى القراء.. الله يسامحهم. ثم أردف قائلاً لكن زوجتى الأخيرة هى حسن الختام.. ويبدو أنها هى التى سأختم بها وضحكنا.
كان الرجل مريضا بالسكر، وكان يتناول حقن الأنسولين بشكل يومى مرة أو مرتين، ورغم ذلك كان يتمتع - رحمه الله - بالصحة فهو يسافر مرات عديدة فى الشهر الواحد، وحدثنى عن تمتعه سنوياً بالحج سنوياً، وأن هذه الرحلة تزيل عنه غبار التجارة ومتاعب الحياة، وأذكر أنه قال لى:
الحج ده حاجة مقدرش استغنى عنها دى الشحنة الربانية اللى بتخلينى أكمل المشوار.
حكى لى عن الحى الذى بناه والذى يحمل اسمه وكيف أنه حورب حتى لا يطلق اسمه على الحى الذى بناه.
حكى لى عن الظروف المادية الصعبة التى واجهته ذات يوم وهددته بدخول السجن، وكيف أن قطعة أرض قد أهداها لإحدى بناته كانت طوق النجاة، إذ قالت له ابنته: بعها يا حاج وباعها بملايين الجنيهات ليسد ديونه، وهو الذى اشتراها بآلاف الجنيهات فقط.
هل كان مبروكاً؟
ربما.. ولكن المؤكد أنه كان ذكياً وشاطراً بالمعنى البلدى، يعرف كيف يبنى وكيف يكسب وكيف يتاجر رغم أنه كان مدرساً.. سافر إلى ليبيا ثم عاد مقاولاً.
وذات يوم اتصل بى وقال لى يا ريت أشوفك فى الفندق دلوقت؟
خير يا حاج سيد؟
بس تعالى وبعدين نتفاهم.
ذهبت فإذا به يجلس مع شاب ألبانى، كنت قد رأيته فى الصحف، إنه أحسن لاعب هنا فى ألبانيا وتتهافت عليه الأندية الأوربية.
سألنى إيه رأيك فيه؟
قلت له ما أقرأه فى الصحف اليومية؟
قال لى أنا عايز الواد ده للنادى المصرى.
كنت أسأل نفسى وسألته أنت جاى ألبانيا تعمل بزنس، و للا بتفكر فى النادى المصرى؟
قال لى بس قل لى إيه رأيك وبعدين أفهمك.
كان النادى المصرى جزءا من حياته، كما كانت أعماله التجارية هى الوقود الذى يمده بالطاقة والقدرة على الاستمرار.
مرت الأيام، وتباعدت المسافات، وتركت ألبانيا منذ عشر سنوات، وفى كل مرة أزور القاهرة أحدث نفسى بأن أزوره لكن لم أستطع.
وقبل وفاته بأيام كنت فى القاهرة وشاهدته على شاشة إحدى القنوات، هو.. هو الحاج سيد متولى لم يتغير عليه شىء، كنت أتمنى زيارته، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
ثم جاء خبر وفاته ـ رحمه الله ـ ورأيت كيف خرجت الألوف تودعه من إستاد بورسعيد، هذا الإستاد الذى سمع عبره يوماً أشد عبارات النقد وأسوأ أنواع الهتاف قبل أن تدرك الجماهير المدفوعة أن الحاج سيد متولى قيمة حقيقية لتعود وتهتف باسمه وحياته بعد مماته.
لم يكن بينى وبينه نسباً، ولا أى علاقة تجارية.. ولست من أهل بلدته.
عرفته رجلاً مصرياً نظيفاً، حسن المعشر، والخلق.
وأدركت قيمته يوم وفاته.
لأن الشعوب إذا أحبت لا تحتاج إلى من يخرجها رغماً عنها.
كانت جنازته عفوية فالرجل ليس مسئولاً حزبياً.
ولا يتمتع بأى صفة رسمية، سوى أنه رئيس للنادى المصرى الذى هزم النادى الأهلى فى بداية الموسم الحالى!
خرجت الناس على طبيعتها.
تحدث العشرات عبر البرامج التلفزيونية.
حتى خصومه كرموه وأشادوا به.
لأنه ببساطة كان مخلصاً لبلده بورسعيد ولناديه المصرى ولكل من عمل معه.
الحاج سيد متولى مات.. وكرمه شعب بورسعيد.
كثيرون يموتون ولا أحد يشعر بهم.
وكثيرون أحياء ولا أحد يهتم بهم.
رغم أنهم يملئون صفحات الصحف اليومية.
ويظهرون على شاشات التلفزة ليل نهار.
لماذا أنعى الحاج سيد متولى؟
لأنه كان بسيطاً وقريباً من الناس.
رحمة الله عليك يا حاج سيد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة