سوق العمل فى مصر يعتبر من اللوغاريتمات الحقيقية التى ربما لن يكون لها مثيل فى العالم، ففى الوقت الذى نشكو فيه من تزايد معدلات البطالة والتى وصلت نسبتها إلى أكثر من 20% من حجم قوة العمل السنوية، إلا أن هناك نقصاً شديداً فى قطاعات عديدة، بل ووصل الأمر إلى قيام أصحاب المصانع "بسرقة" العمالة خاصةً المدربة من بعضهم البعض.
وهذا السوق بمفهومه الواسع به العديد من المشاكل، سواء تنظيمية أو تشريعية أو فنية، بالإضافة إلى الخلل المادى، حيث أصبح هناك تفاوت كبير فى الأجور، وأصبح الهرم الوظيفى يتسم بالاعوجاج ولم يعد هرماً بالشكل المألوف لدينا.. كل هذا يحدث فى الوقت الذى تسعى فيه مصر بصفة عامة إلى البحث عن الجودة واكتساب سمعة فى الأسواق الخارجية، خاصةً وأن المنافسة أصبحت الآن من الشراسة بحيث يكون من السهل خروج دول بالكامل من الأسواق العالمية لمجرد أن مصنعاً صغيراً بها، إنتاجه لم تتوافر فيه مواصفات الجودة.
وسألنى صديق لى، صاحب أحد المصانع الكبرى فى تصنيع المعدات الهندسية، عن الضمانات التى من الممكن أن يوفرها القانون لصاحب المصنع الذى يتم الاستيلاء على عماله وموظفيه الذين قام المصنع بتدريبهم فى الخارج والداخل، ووفر لهم دورات تدريبية على أعلى مستوى، وبعد أقل من عام وقبل أن يستفيد من خبراتهم يطلبون الرحيل أو زيادة راتبهم ثلاثة أو أربعة أضعاف، وذلك كنوع من أنواع الضغط ولى الذراع، أو وضع شروط تعجيزية من الصعب الموافقه عليها، فى حين لو قام المصنع من جانبه بالاستغناء عن أى عامل يكون لزاماً عليه منحه كافة حقوقه التأمينية ومكافأة نهاية الخدمة، وتعويضاً عن قرار الإقالة، ويصرف له راتبه كاملاً لمدد مختلفة، وذلك وفقا لقانون العمل بالإضافة إلى أن من حق العامل أن يتقدم بتظلم ضد صاحب العمل، وليس من حق صاحب العمل أن يتقدم بأى شكوى ضد العامل.
أنا لست مع صاحب العمل ضد العامل أو مع العامل ضد صاحب العمل، ولكننى مؤمن أشد الإيمان بأن مصر لن تتطور صناعياً إلا إذا تم توفير مستوى متقدم من التدريب للعامل وليس تدريباً تقليدياً فى ورش التدريب المهنى، وإنما مستوى متقدم من التدريب، والتى غالباً ما تصل تكاليفه إلى عشرات بل ومئات الألوف من الجنيهات سواء كان داخل مصر أو خارجها، ولن تستطيع الدولة وحدها توفير هذا النوع الراقى من التدريب، ولكن يقع العبء الأكبر على أصحاب الأعمال، والذين عليهم البحث باستمرار عن المدارس المتطورة فى العالم والخبراء ذوى الخبرة العالية من أجل نقل تلك الخبرة إلى العاملين فى مصانعهم، والسؤال الآن: من يضمن لأصحاب الأعمال تلك الثروة البشرية من الانتقال إلى أماكن أخرى سواء داخل مصر أو خارجها وبذلك تضيع أموالهم التى استثمروها فى البشر؟
وإذا كنا نبحث عن التطوير الصناعى فلابد أن نوفر له النظام الأمثل كى نحافظ فيه على حقوق العامل وصاحب العمل، لا نريد أن نكرر تجربة الاحتراف فى كرة القدم التى منحت كافة الحقوق للاعبين وأضاعت حقوق أنديتهم، والنتيجة هذا العبث الذى وصلت إليه منظومة كرة القدم وتحكم اللاعب فى ناديه وفرض شروطه، الأمر الذى ضاع بسببه الانتماء الذى كنا نفخر به والذى كان ينتقل من اللاعب إلى الجمهور.
منظومة العمل بصفة عامة فى مصر لم تتطور منذ القوانين الاشتراكية، ولم تدخل عليها أيه تعديلات، وهناك أصحاب أعمال يريدون أن يطوروا من إنتاجهم، ولديهم القناعة التامة بأن التطوير لابد أن يبدأ من العامل، ولابد أن نمنحهم الأمان والمواثيق التى تحفظ لهم حقهم فى الاستثمارات التى سيستثمرونها فى البشر، وهذا النظام إذا تم وضعه بالاتفاق بين جمعيات رجال الأعمال والغرف التجارية ووزارة العمل والاتحاد العام للعمال والخاص فقط بالاستثمار البشرى، سوف يستفيد منها الجميع وستحفظ للعامل حقه أيضاً.
لقد تعرضت "مصر للطيران" إلى هذا الموقف، حيث قدمت للمهندسين لديها أعلى مستوى من التدريب على تقنيات الطيران الحديثة، وبلغت تكاليف الدورة الواحدة للمهندس نحو عشرين ألف جنيه، وكل مهندس حصل على ما يقرب من أربع إلى خمس دورات، وبعدما أنهى هؤلاء دوراتهم، عرضت عليهم إحدى شركات الطيران العربية عروضاً مغرية، فما كان منهم إلا أن تقدموا باستقالاتهم ودفعوا الشرط الجزائى، والذى كان يقدر بنحو عشرين ألف دولار، وبذلك لم تستفد منهم مصر للطيران، واستفادت الشركة العربية منهم، وبدءوا يزاولون نشاطهم منذ أول يوم وأصبح على "مصر للطيران" أن تقوم بإعداد دفعة أخرى، وتنتظر حتى ينهوا دوراتهم التدريبية، ويعلم الله إن كانت ستستفيد منهم أم تلتقطهم شركة أخرى.
جميع دول العالم تسن القوانين للحفاظ على مواردها وثرواتها البشرية، إلا مصر وانتقلت العدوى إلى شركاتها أيضاً، وكأن مصر أصبحت بمثابة مزرعة بشرية كبيرة تزرع ويحصد زرعها آخرون، ولم تستفد من تجارب الدول الأخرى مثل الهند التى فرضت سياجاً حديدياً على خبراتها البشرية، خاصةً فى صناعة الكمبيوتر حتى لا تتبخر وتذهب إلى دول أخرى، خاصة بعدما أدركت رغبة دول كثيرة فى تجنيسهم بجنسياتها مقابل الانتقال إليها والعمل فى مجال صناعة البرمجيات.