فى الصباح الباكر .. القاهرة خالية تماماً ولا معنى لها إلا من وهم الحلم .. كنت غائبة هناك فى الطريق إلى العبور نحو الضفة الأخرى من الذاكرة ووجودك المستحيل عند أصابعى..
فى السابعة صباحا تدق الساعة، البيوت كانت واقفة فى برود وصلابة، هواء الصباح يلسع وجهاًَ لم يزل يعاند آثار نوم قلق ويمهد لعراك نهار صاخب، أتابع بذهن شارد آخر خطواتك التى مرت من هنا فوق الرصيف كانت هنا فوق هذا المنعطف من الشارع، أعيد على مسامعى صوتك ولكنتك الغريبة وأنت معلقة فى يدى كالأطفال. وتنظرين نحوى فى دهشة حين نقف تنظرين فى عينى مباشرة تلمع عيونك وتشهقين بارتياح، مطمئنة لتوترى الدائم تهمسين فنمضى تتابع السير والضجيج \ الحلم والمشى والحوار العقيم، كان الرقص على بركان الحلم الفاضح لأمكنتنا أحد أسباب التصقنا..
هل نذكر الصحراء؟ لا لكنى أذكر الغياب والحنين وقافلة المعز ترحل من هنا لكى يدخل مصر يصفق الناس له فى اجتماع مهيب بلا سبب يذك، وبونابرت يغزو مصر، والمماليك يفرون هربا إلى الصعيد، هل تعرفين الفرق بين الطين والفلاح فى التاريخ هو كالفرق بين وجدى والنشيد.
بين البيوت التى تهادت حيث تطل عيونك من أعلى جداً وتصنع النشيد الأخير والنشيج, كى أتشوق إليك فأفر إلى ملابسى أضمها وأمضى أعيد شدها على أعضائى بحكمة منظمة أرتدى ملابس ضيقة جدا حين نكون معا حتى لا تهزمنى أمامك كل الوقت، فتفر منها الأعضاء إليك مثلما تفر عيونك هكذا دوما، أتساءل كيف ينتمى وجودك إلىّ؟
أصرخ فى الممر الوحيد الذى نلتصق فيه فى الزحام، وتقترب رأسك بما يكفى حد الملامسة وتضيق المساحة أكثر وأكثر لو كان هناك وقت كى لا تضيق العبارة حد التفاتات وجهك الأزلى أو عيونك الضاحكة من خجلى، لو أننى كنت أتابع بصبر هزائمى أمام انتصارات الحرائق فى ليلك الأرق، من سجائر اللف إلى همس الشوق وعلب المار لبور الملقاة فى الشارع من قريتنا الهزيلة النائمة التى لم تزل فى غيابها إلى مدنك الغريبة فى بيروت وكوبنهاجن..
فى الصباح البارد يهطل المطر يلسع وجهى فأصحو تماما وهذا لا يغير شيئا .. عيونك تطاردنى ببسمة أليمة وشوق جارف فى المصعد حتى الدور العشرين والعودة كنا فى منتصف الطريق إلى بلادنا المهزومة..
ـ ما رأيك؟
ـ أوافق.
ـ سأغلق الباب جيدا وأعطل المصعد.
ـ لا.. اتركيه يصعد ونحن فيه ربما يطلبه أحدهم.
ـ ساعتها نتصرف.
تلفت حولى وقبلتها قبلة سريعة خاطفة أمسكت بيدى وضغطت بعنف على أصابعى .. رفعنا المصعد لأعلى أحدث ارتباكا فى قلوبنا التى تهتز بعنف واختفى توترنا قليلا حين هدأت سرعته وانتظمت احتضنتها فى الدور العشرين .. ظلت العيون تحاول جاهدة إخفاء بقايا هزائمنا الصغيرة فتحنا الباب وأغلقنه ثانية ولم يصعد أحد .. ضغطت على حرف G أربكها نزوله المفاجىء السريع .. التصقت بى بخوف حقيقى أول الأمر،غير أنها عادت متماسكة حين مرت شفاهها بجوار أذنى مباشرة والتصق شعرها المتطاير حولى تخفض ناظريها لأرض المصعد خجلا...
ثوانى نكون فى الدور الأرضى
تعالى نشوف عمارة عالية
لم يعد هناك وقت
نظرت فى الأرض خجلا..
ليس بيدى
لا تمضى
الطفل فى قلبى يعاوده الحنين
لا تمضى
سيضيع الوقت
نحن فى الدور الثالث
التصقت أكثر، هذا المصعد سريع جدا
فى الدور الأخير
كان فى انتظارنا كل سُكان العمارة مُبحلقين إلينا بغيظ مكتوم
سألتنى امرأة ثمينة
هو الأسانسير عطلان؟