ما يتعرض له وول ستريت (سوق المال الأمريكى) الآن والانخفاضات أو الانهيارات المتتالية التى تضرب المؤسسات المالية الأمريكية العملاقة مثل مؤسسة ميريل لينش، وغيرها من المؤسسات المعرضة للانهيار، حسب توقعات وزير الخزانة الأمريكى، يشبه الفوضى الاقتصادية الخلاقة.
وكانت مؤسسة ميريل لينش وغيرها من المؤسسات الكبرى، فى يوم من الأيام تهز عروش اقتصاديات الدول المختلفة فى ربوع الأرض، وكانت تقاريرها وتقييماتها المالية ترفع من تشاء وتهبط بمن تشاء من حكومات ودول. لكن بدون مقدمات تهاوت تلك المؤسسات ولم تنفعها نصائحها ولا تقييماتها التى كانت تقدمها لغيرها، بل لجأت للأساليب التى كانت تحذر منها.. لجأت إلى الحكومة لتنقذها وأصبح لزاما على دافع الضرائب الأمريكية أن ينقذ المؤسسات المالية التى طالما حققت أرباحاً ضخمة، ولم تعتقد فى لحظة من اللحظات أن عرشها من الممكن أن يتهاوى بمثل هذه السرعة وأن تقتلع من جذورها.
لقد اكتوت المؤسسات المالية الأمريكية بنفس النار التى كانت تلعب بها والتى كانت تلوح بها وتهدد الدول الأخرى. كانت شهاداتها بمثابة صكوك الغفران للحكومات كى تهبط عليها الاستثمارات الضخمة من الشركات العملاقة التى كانت تشترط حصول اقتصاد أى دولة على درجه لا تقل عن مستوىB+" " من تقييمات تلك المؤسسات كى تفكر فى الدخول والاستثمار فى أسواقها، لدرجه أن الشركات الأوروبية والآسيوية الكبرى وحتى العربية بدأت تهتم بتقييمات تلك المؤسسات لأسواق الدول قبل دخولها.
المشكلة الحقيقية الآن، تتجسد فى الثقة التى أصبحت مفقودة بين المؤسسات المالية والبنوك الكبرى من ناحية، وبينها وبين الجمهور من ناحية أخرى، تلك الثقة التى كانت تعتبر رأس المال الحقيقى، والتى كانت تفتخر بها دائما سواء على المستوى الأمريكى أو العالمى.
وتلك الثقة التى تم بناؤها على مدى عشرات بل ومئات السنين، تهاوت فى لحظة، وتحتاج أموالا ضخمة حتى تعود مرة أخرى بعد سنوات لا يعلم مداها إلا الله، وفى حالة عودتها لن تكون مثلما كانت عليه من قبل، وأنا شخصيا أشك فى عودتها إلا إذا قامت تلك المؤسسات بمجهود ضخم للغاية.
لقد كانت حكومات الدول، ومنها الحكومة المصرية، تولى اهتماماً كبيراً بتقييمات تلك المؤسسات المالية الأمريكية مثل "ميريل لينش" أو "ستاندرز أند بورز" لحالة الاقتصاد، كون تقييماتها توازى بل تفوق تقييمات المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى.
لكن ما حدث لتلك المؤسسات من انهيار حاليا، سيلزم الحكومات بالبحث عن مصادر أخرى لـ"شهادات الثقة"، ولذلك فالتساؤل الذى يفرض نفسه الآن: هل ستظهر مؤسسات جديدة تحل محل المؤسسات الحالية، وهل تلك الأزمة سينتج عنها إفراز قوى مؤسسية اقتصادية جديدة تتولى زمام القيادة بدلا من المؤسسات التى أصبحت الآن فى خانة "سابقا"، بمعنى: هل تلك الفوضى الاقتصادية التى خلفتها الأزمة الراهنة ستفرز أوضاعا اقتصادية جديدة؟
ما يتعرض له الاقتصاد الأمريكى الآن يعتبر حداً فاصلاً لما كان وما سيكون عليه شكل العلاقة بين المؤسسات وبعضها البعض، وبينها وبين الحكومة ومؤسسات الدولة بصفة عامة خلال المرحلة المقبلة.
الاقتصاد الأمريكى الذى كان يتسم بالانضباط الشديد ولم يعرف معنى الفوضى مطلقا، هل ستختلف الأسس التى سيقوم عليها؟ والتى كانت تعتمد على عدم تدخل الحكومة بأى شكل من الأشكال فى توجيهه أو إدارته ويترك لمؤسساته أن تتفاعل مع بعضها البعض لتصحيح أوضاعها أولاً بأول، بل كان التنظيم يأتى ذاتياً من داخل مؤسساته التى كانت تفرض النظام والأسلوب الذى يتفق عليه الجميع ويلتزم به، إلا أنه مع بدء الانهيار لم يفلح سوى تدخل مباشر من الدولة فى سابقة خطيرة كلفت الخزانة الأمريكية 700 مليار دولار سيتحملها بالتأكيد دافع الضرائب الذى لا ناقة له ولا جمل فيما يحدث، والذى تربى على الاقتصاد الحر وعلى تحمل كل مؤسسة نتائج أعمالها، سواء كانت ناجحة أو فاشلة دون تدخل خارجى، خاصة من الدولة.
الاعتقاد السائد، أن النتيجة الإيجابية الكبرى من تدخل الحكومة الأمريكية بهذا الثقل الضخم لإنقاذ المؤسسات المالية الكبرى وشراء الديون شبه معدومة التحصيل، سوف يجعل العديد من الحكومات تفكر ألف مرة فى أنظمتها الاقتصادية الحالية وخططها المستقبلية التى كانت تنوى اتباعها، وكانت تعتمد على سياسة رفع يد الدولة عن النشاط الاقتصادى بالكامل، وتركه للشركات والمؤسسات الخاصة، والاكتفاء فقط بوضع التشريعات التى كانت تتوافق فى الغالب مع أهواء أصحاب الأعمال.
تلك التشريعات كانت ـ عند التطبيق ـ تظهر اختلافات شديدة فى أسلوب كل دولة عن الأخرى، خاصة أن هناك حكومات رشيدة كانت تلتزم بمبادئ من الشفافية والعدل فى التطبيق، وحكومات أخرى ضعيفة كانت تخضع التطبيق لسطوة رأس المال وأصحاب النفوذ وتخلط السياسة بالمال فى منظومة فوضوية، بادعائها أن هذا هو الاقتصاد الحر.
وبعد تلك التطورات، هل سيعاد النظر فى كافة هذه الإجراءات، وهل ستبطئ تلك الدول من خطوات الإصلاح الاقتصادى بالمفهوم القديم، وتنتظر لما ستسفر عنه الأزمة من نظريات اقتصادية جديدة قد تتلاءم وتتوافق ما بين الاقتصاد الحر والاقتصاد الموجه. الحالة ضبابية وبدرجة شديدة وخرائط الطرق لم تحدد معالمها بعد.
أزمة "مالية" العالم.. الفوضى تصلح ما أفسدته المؤسسات
الخميس، 09 أكتوبر 2008 02:37 م
الفوضى تقتحم سوق المال الأمريكى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة