لغط جائزة بوكر

وقائع الخواء الثقافى فى رواية مصرية

الإثنين، 06 أكتوبر 2008 02:54 م
وقائع الخواء الثقافى فى رواية مصرية
د. طلال الجعفرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى روايته الثانية "غير المضحوك عليهم"، والتى أثارت جدلا واسع النطاق على مستوى الساحة الأدبية المصرية، يعمد مؤلفها ياسر منجى الروائى والتشكيلى والناقد إلى تفكيك المشهد الثقافى المصرى برمته؛ كيما يضع يديه على مواطن العلل وبؤر الاحتقان التى ما برحت تنز فى صميم المشهد الثقافى المصرى طوال قرن مضى، لتتراكم أرصدتها منذرة بانسحاب البساط الريادى من أسفل قدمى العاصمة العربية العجوز لصالح عواصم أخرى أكثر فتوة وقدرة على التصدى لتحديات الراهن.

تحمل الرواية فى سياقها السردى عدة ضفائر متشابكة إلى درجة التعقيد من التيمات التى يصلح كل منها لأن يتخذ كموضوعة لدراسة نقدية مستقلة؛ فالمؤلف – بما توفر لديه من وفرة فى الوقائع وبانورامية فى الاطلاع على المشهد المذكور من كونه منخرطا فيه من عدة زوايا كناقد وتشكيلى وأديب فاعل فى السياقات الثلاث – قد استثمر خصب مادته الأولية من الوقائع الموارة فى الحقل الثقافى المصرى، مستلهما إياها فى قالب حكائى يتذرع ببنية السيرة الذاتية ومتسلحاً بشمولية الوعى التى تتيحها تقنية الحكى وفقا لنموذج "الراوى العليم"، وذلك ليعرى زيف الشخوص الخاوية، والتى تسلمت مواقع قيادية فى صدر المشهد الثقافى المصرى، تمارس من خلالها إنزاف نسغه؛ وهو ما تظهره الفقرة التالية بجلاء لا مواربة فيه:

وربما لم يتح لأحد من الإداريين أن يتقلب فى وظائف المواقع الثقافية المختلفة كما فعل رياض شاهين، الذى ظل يتدرج فى المناصب إلى أن انتهى إلى منصب "رئيس الإدارة المركزية للمخازن المتحفية" فى الهيئة المصرية العامة للفن الحديث والمعاصر، وهو المنصب الذى ظل يشغله حتى خروجه على المعاش. ومع تدرجه الوظيفى وتشعب علاقاته مع ذوى النفوذ، أخذ قلمه يلمع إلى أن صار واحدا من أكثر النقاد سطوة وأكثرهم إثارة للرهبة فى قلوب الفنانين التشكيليين، مستغلا سطوته فى عرض أعماله الفنية المتواضعة من آن لآخر، ضامنا لها رواجا لا يتأتى إلا لكبار الفنانين الموهوبين، من خلال "إدارة المقتنيات" التى كانت تقوم بشراء معظم أعماله المعروضة لصالح وزارة الثقافة.

عاصر رياض شاهين كافة التطورات التى طرأت على "الهيئة المصرية العامة للفن الحديث والمعاصر" منذ حقبة الستينيات وحتى الآن. فقد شهدت الهيئة مراحل تطور متعددة منذ أن كانت تسمى "مراقبة الرسومات والمنحوتات" بوزارة المعارف العمومية، ثم بتحولها إلى "المراقبة العامة للرسم والنحت"، ثم إلى "الإدارة العامة للمشغولات الفنية" فى وزارة الثقافة بعد إنشائها فى عام 1958م، فتولى إدارتها الفنان "ناشد رستم" سليل الأسرة الإقطاعية التى تحول جميع أفرادها بين يوم وليلة إلى أشد أنصار الثورة حماسا، محتفظين بثرواتهم كاملة بفضل علاقاتهم الطيبة بكبار الضباط الأحرار، تلك العلاقات التى توجتها صداقة ابنهم الفنان "ناشد" – "ناشد بك رستم سابقا" - بالرئيس جمال عبد الناصر الذى جلس إليه شخصياً أكثر من مرة ليرسمه فى لوحات بالحجم الطبيعى تصوره فى أوضاع بطولية متشامخة.

وفى عام 1963م، انضمت إليها "الإدارة العامة للأنتيكات" التى أنشئت عام 1956 فور انتهاء العدوان الثلاثى، وتولى إدارتها الفنان "عبد رب النبى الساعاتى" الذى كان مديراً لـ"الأنتكخانة الفنية"، وبعد تقاعده أوائل عام 1967 تولى الأستاذ "الشهاوى شحتة" رئاستها تحت مسمى "الإدارة العامة للفنون الثورية والمتاحف القومية العربية"؛ والذى تم الاستغناء عن خدماته بعد عدة أشهر ليعين بدلا منه "رياض شاهين"، الذى انفتحت شهيته لرفع التقارير التفصيلية عن الانتماء السياسى للفنانين واتجاهاتهم الفكرية؛ لاسيما بعد هزيمة "يونيو" التى أشعلت حماسه التقاريرى بدافع التفتيش الوطنى خلف (أوباش الطابور الخامس) من المندسين بين الفنانين، والذين كان يؤكد ضلوعهم فى تهيئة أسباب نكسة الوطن، وهو ما كان يصرح به بصوت خفيض وهو يرتدى نظاراته الشمسية الداكنة التى كانت تزيد من خطورة قسمات وجهه الصارم بينما يهمس فى فحيح واثق النبرة بجملته الشهيرة: (دول شلة شيوعيين مخربين واحنا راصدينهم كويس يا عزيزى)، وما لبثت الإدارة أن تحولت فى عهده إلى "الهيئة العامة للفنون الوطنية والآداب القومية الجماهيرية"؛ لتكون بمثابة تجسيد مؤسسى لخلاصة الفكر الناصرى القومى وتعاليم "الميثاق".

وبعد نصر "أكتوبر" المجيد، طبقا لسياسة السادات فى التخلص من (رواسب العهد الشمولى القمعى) على حد تعبير المخلصين له من رجال الثقافة، ألغيت هذه الهيئة عام 1973، وأنشأ بدلاً منها "المركز القومى للأشغال الفنية" الذى تولى رئاسته الفنان الدكتور شتيوى كُزبر، ليتلقى تعليمات بتعيين رياض شاهين رئيسا لـ"الإدارة العامة للتثقيف"، عقب صدور كتابه "الملامح العامة لشخصية الرئيس السادات، وأثرها على النهضة الفنية التشكيلية"؛ وهو الكتاب الذى صدر متزامناً مع معرضه "جماليات البحث عن الذات"، والذى عرض من خلاله أربعين لوحة زيتية، احتوت كل منها على منظر يبدو فيه السادات ماثلاً فى أحد الأوضاع الشامخة أو مؤدياً لعمل بطولى، وعلقت فى صدر المعرض لوحة ضخمة رسم فيها رياض شاهين، كافة الشخصيات التى تمثل طوائف الشعب من عمال وفلاحين وعلماء وجنود وطلاب ورجال دين، وقد ظهروا جميعا يحملون ملامح وجه السادات المميزة.

وبعد أن تولى الفنان الأستاذ الدكتور "زهير عبد الجبار" رئاسة المركز عام 1977، ظل رياض شاهين يفخر بالصورة العملاقة التى تعلو الحائط خلف مكتبه، والتى يبدو فيها الرئيس أنور السادات مبتسماً ومربتاً على كتفه خلال تجواله ب"المعرض الدولى السنوى لانتصارات حرب أكتوبر المجيدة" – ذلك المعرض الذى أتاه الإلهام بتأسيسه فى لحظة فيض علوى- فكان يشرح لمتأملى الصورة المبهورين كيف أن الرئيس المؤمن قد أطلق تصريحه الخطير الذى يكشف عن عبقريته حين صرح على الملأ: "رياض شاهين ده من أولادى المخلصين"، حتى كان مصرع "السادات" المأساوى فى حادث المنصة، فاستبدلت الصورة بأخرى يبدو فيها رياض شاهين مقطبا وهو يسطر شيئا بقلمه على ورقة. وفى عام 1986 تحول "المركز القومى للأشغال الفنية" إلى "الهيئة المصرية العامة للفن الحديث والمعاصر"، تحت رئاسة الفنان الأستاذ الدكتور "مسعد الفران"، ليترقى رياض شاهين لمنصب "رئيس الإدارة المركزية للمخازن المتحفية". حتى كان يوم 26 مارس عام 1997 عندما أنهى رياض شاهين فترة خدمته الوظيفية بوصوله لسن المعاش وهو على درجة وكيل أول وزارة.

هكذا ودون تزويق تمارس الرواية إملاء شهادتها على وقائع الخواء الثقافى، فاضحة استراتيجيات تغلغل الطفيليين والمزيفين فى صميم الحياة الثقافية؛ وهو ما يفسر الضجة التى صاحبت ظهور الطبعة الأولى للرواية، وانقسام الساحتين النقدية والإعلامية فى مصر بشأنها بين رأيين نقيضين؛ يرى الأول منهما أنها نص إبداعى جرئ وجدير بالتناول من زاوية النصوص البوحية القصوى على غرار "الخبز الحافى" لمحمد شكرى، بينما يرى الرأى الآخر فيها عملاً فوضوياً يروم صاحبه من خلاله إحداث ضجة لضمان الشهرة. وقد زادت حدة الخلاف بين الفريقين مؤخرا بعد إعلان ترشيح الرواية لجائزة "بوكر العربية" (الجائزة الدولية للرواية العربية) IPAF فى دورتها الثانية، حيث صارت الرواية المذكورة هدفا للمزايدة التنبؤية من قبل البعض؛ فهل يفعلها ياسر منجى، ويصل إلى ما سبق وأن وصل إليه مواطنه بهاء طاهر بفوزه بالمركز الأول؟





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة