لا يشبه كتاب رشا الأمير "البلد الصّغير"، الصادر حديثاً بالفرنسية عن دار الجديد اللبنانية، ما عداه من كتب ومؤلفات قد تقع عين القارئ أو يده عليه. إنه قصة للصغار شكلاً ومن المرجّح أن يشاركهم الكبار قراءتها.
تروى رشا الأمير صاحبة رواية "يوم الدين", الرواية التى أثارت يوم صدورها جدلاً لم يهدأ بعد, لتناولها صعود الإسلام السياسى فى مجتمعاتنا, وذلك على لسان شيخ سنّى مبشّر بالفصل بين الدين والدنيا، تروى هذه المرّة وبخيال الأطفال وألوانهم ورسوماتهم ومفرداتهم حكاية بلد صغير "تمنى الجغرافيون عدم رسمه على خرائطهم"؛ بلد يبدو من الخارج جنّة لكنه فى الحقيقة جحيماً.
تضع رشا الأمير إصبعها فى الجرح، لا بل الجراح. تتحسسها تمحّص فى أسبابها كل ذلك بأسلوب خيالى، يمت إلى الواقع بصلات كثيرة. وهى وإن اختارت ألا تسمى الأشياء بأسمائها، لا خوفاً أو تهرباً، إنما أرادت أن تخاطب الطفل الساخر النائم فى كلّ إنسان.
تستحضر رشا الأمير من ذاكرتها أحداثاً عديدة، ترويها للصغار، والكبار على حد سواء بأسلوب شاعرى ممتع. تحدثهم عن بلد صغير يضطر فيه أبناؤه "ألبى وثريّا" بطلا روايتها وأترابهما, إلى الدراسة فى أكثر من 20 كتاب تاريخ و10 لغات مختلفة، وهنا غمزة واضحة للفوضى السائدة، فى بلاد كثيرة، حين يصل الأمر إلى تقييم التاريخ والاستفادة من عبره.
تخبرهم الكاتبة بين المزاح والجد, كيف يتغنى بلدهم بأدبائه وأطبائه ومبدعيه وكيف يتحول مريضاً واهناً خائر القوى، عندما يتعلق الأمر بتسديد حسابات البنك الدولى!
تقصّ عليهم كيف أن ثقة بلدهم الكبيرة بنفسه لم تحل دون أن ينظر إليه جيرانه، الأقربين والأبعدين، بعين الشهوة، وكيف أن عصا الساحرات اللواتى سهرن على ولادته لم تعد كافية لحمايته.
تكلمهم عن بلد يعيش كل يوم بيومه، من دون أن يعى ما سيحمله القدر إليه غداً. وذات يوم تشتعل الحروب, حروب لا يفهم الصّغار قواعدها, حروب يتيقّن الناس كلّهم بأنهم تحت رحمتها، وأنهم لا يستطيعون الوقوف فى وجه ما اعتقدوه قدر محتّم.
وإذا كان سكّان البلد الصّغير لم يستطيعوا أن يقولوا "لا للحرب سابقاً"، فإن الكاتبة عبر أبطال روايتها تقول لا للحرب. إذ تحمل رفوف العصافير البلد الصغير، فى يوم من أيام استراحة المحاربين، وتحلّق به إلى مكان آمن، بعيداً عن أهله وجيرانه، الذين اعتقدوا أنه لا يستطيع أن يحيا يوماً بعيداً عنهم. إلى مكان لا يستطيع أحد سوى العصافير بلوغه.
يجد البلد الصغير نفسه كالعصفور المتروك وحده، أمام اختبار التحليق للمرة الأولى فى حياته، بمنأى عن أمه وأبيه وجيرانه، فيما يأخذ الشك طريقه إليه مرات عديدة. صبيحة ذات يوم، يستفيق البلد الصغير على وقع سمفونية تنشدها له العصافير التى تحضر لتشاهده جميعها وهو يغرّد للمرة الأولى ... يغرد بأجنحته, ويشاهد النجوم كما لم يسبق أن بدت له على هذا القدر من الجمال.
ليس مضمون القصة وأسلوب الكاتبة فى إيصال ما أرادت إيصاله إلى القارئ، وحدهما ما يميزان هذا الكتاب، فلا بد لمتصفحه من أن يتوقف عند الرسوم التصويرية التى ترافقه، والتى تتبدل ملامحها وألوانها ودلالاتها وتتغير تبعاً للمسار الذى تأخذه مجريات وأحداث القصة.
تواكب ريشة دانيال قطار حكايات رشا الأمير خطوة بخطوة، فتمتزج الكلمة باللوحة الفنية، فى قالب إبداعى مثير للاهتمام. كذلك لابد من الإشارة إلى أن الإشراف الفنى تولته رندة عبد الباقى.
خليل رامز سركيس ـ أحد أبرز الناشرين اللبنانيين, ومترجم جان جاك روسو إلى العربية, وصاحب مؤلفات تجمع بين الأدب الرفيع والتفكّر العميق، كتب يقول: "الأمير الصغير" كتاب أنطوان دو سان إكزوبرى مسقط رأسه الصّحراء وموطنه العالم، و"البلد الصغير" كتاب رشا الأمير، مسقط رأسه العالم وموطنه لبنان.
العالم إذن هو مسقط رأس "بلد رشا الأمير الصغير" أمّا موطنها، هى الروائية المقتدرة من عربيّتها وفرنسيّتها، فلغاتها الأنيقة ومواهبها المدهشة.