خلال المؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذى عقد خلال الأسبوع الأول من أكتوبر 2008، تقدمت سوريا للترشيح لعضوية مجلس المحافظين بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، وظنت سوريا وهى تتقدم بهذا الطلب أنها تستطيع أن تكون عضواً مؤثراً فى الملفات النووية على مستوى صناعة القرار فى الوكالة، كما بنت سوريا موقفها على أساس حالة الانفتاح الفرنسى عليها، وظنت أن الباب قد فتح لها لكى تدخل إلى هذه المرتبة من السياسات فى هذا المجال. ولذلك فإن رفض عضوية سوريا يعنى أنه لا يزال أمامها الكثير، وأن حسن ظنها فى الغرب فى هذه المرحلة يحتاج إلى المزيد والصبر.
ولكن المشكلة التى نعالجها هنا، هى مدى الحرية التى تتمتع بها الوكالة فى التفتيش داخل الدول الأعضاء. هذه القضية ترتبط بها قضية أكبر وهى أن الولايات المتحدة قد أعطت لنفسها سلطة فوق الدول، وتمكنت خلال عصر الهيمنة الأمريكية الممتد من 1991 حتى 2008، ويوشك أن يتراجع بشكل ملموس من توظيف الوكالة فى الملف النووى بشكل أفقد المصداقية للوكالة ولسياسة منع الانتشار النووى الهامة لصيانة السلم الدولى، والتى ترتكز عليها الوكالة. فقد تجاوزت واشنطن عن التسلح النووى الهندى والباكستانى خلال إطار معاهدة منع الانتشار، كما تجاوزت عما تردد بقوة يصل إلى درجة اليقين من أن إسرائيل دولة نووية، وقدمت الحماية اللازمة لعدم المساس بها، وأرادت أن تمنع غيرها خاصة فى المنطقة من التسلح النووى. ويستطيع المراقب أن يقرأ بوضوح ثلاثة ملفات نووية فى المنطقة، تعاملت معها الولايات المتحدة بأشكال مختلفة وتريد أن تنشئ سوطاً جديداً لتلهب به ظهر سوريا، وتكون أداة للضغط عليها وشغلها بملف نووى رابع.
فمن المعلوم أن الولايات المتحدة دفعت مجلس الأمن بعد اتهامها العراق بحيازة أسلحة الدمار الشامل إلى التفتيش الدولى وأخضعته بموجب القرار 1441 إلى نوع من الوصاية الدولية، بل زعمت أن هذا القرار يسمح لها شخصياً بأن تحتل العراق فى إطار عملية التفتيش، ولا يحتاج القارئ إلى تكملة هذا المسلسل الردئ الذى يشبه قضية الذئب والحمل، عندما يقرر الذئب أن يلتهم الحمل، فادعى أن جده كان يعكر الماء الذى يشرب منه الذئب، وعلى الحمل أن يثبت أن جده لم يفعل ذلك.
أما الملف الليبى فهو معروف حيث سارعت ليبيا لتسليم ما لديها، حتى تتجنب إدراجها فى محطات القطار الأمريكى الذى قرر التهام المنطقة بعد أن حذرتها واشنطن مما حدث لصدام حسين. أما الملف الإيرانى فيعلم القارئ تطوراته لدرجة أن مرشحى الرئاسة ونائبيها لم يتمكنا من إثبات خطر هذا الملف على الولايات المتحدة نفسها. وهكذا نصل إلى الملف الذى أعد لسوريا حتى تصبح الملف الرابع، فمن الذى أعطى واشنطن وإسرائيل الحق فى مهاجمة الأراضى السورية من حين لآخر، بحجة التأكد من أنها تنشئ مواقع نووية، ولما كانت هذه الأخبار تتوالى حول هذه الحوادث وقع فى روع القارئ أن إسرائيل النووية من حقها أن تمنع الآخرين من أن يكونوا فى المعسكر النووى وليس القانون الدولى أساساً لذلك، بل إن واشنطن وإسرائيل تفخران باعتزاز بأنهما يراقبان الأراضى السورية. فصحيح من الناحية القانونية هو أن سوريا وهى طرف فى اتفاقية منع الانتشار النووى وعضو فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تخضع لنظام قانونى يحدده نظام الوكالة ومعاهدة منع الانتشار وليس لأى دولة دخل فى ذلك، فإذا قررت سوريا أن تتسلح نووياً شأنها شأن أى دولة أخرى طرف فى المعاهدةـ فليس عليها إلى أن تصدر إعلاناً، وفقاً للمادة العاشرة من هذه المعاهدة، تقول فيه باقتضاب ودون حاجة إلى شرح أو إيضاح بأن مصالحها القومية العليا تقتضى الانسحاب من المعاهدة ثم تفعل ما تشاء، والغريب أن العدوان الإسرائيلى المستمر على سوريا والابتزاز الأمريكى لا يلقى إدانة أو استهجاناً من الدول العربية، وكأن من حق إسرائيل أن تفتش بنفسها فى سوريا، بل يذكر القارئ أن واشنطن هى التى أذاعت خبر الغارة الإسرائيلية على مناطق فى العمق السورى وكأنها تزف بشرى طيبة حول بطولة إسرائيل.
ولم يجرؤ مجلس الأمن على الانعقاد بعد أن أخطرته سوريا بهذا العدوان، كما أن سوريا يئست من مجلس الأمن ولم تطلب انعقاده، وكان يجب على الأمين العام الذى يرعى السلم والأمن الدوليين أن يمارس دوره وفق المادة 99 من الميثاق، ولكن التواطؤ العام مع إسرائيل كان ظاهراً للعيان، وقد همس البعض حول عدم قيام سوريا بالرد على إسرائيل ومدى استعداد الدفاع السورى للتصدى للطائرات المغيرة، وأنا أعتقد أنه فى ظل التوحش الأمريكى والإسرائيلى والقدرة على الانفراد بسوريا وتنطع الدول العربية فإن أى عمل من جانب سوريا سوف يؤدى إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة، وهذه على وجه التحديد أهم دوافع العدوان الإسرائيلى الذى لا يعرف سوى القوة والردع، فماذا تفعل سوريا إذا تمسكت بحقها فى ألا يفتش عليها أحد وعدم قدرتها على التصدى لإسرائيل التى ابتدعت لنفسها وظيفة تخرج تماماً عن سلوك الدول المتحضرة للمجتمع الدولى؟
يبدو لنا أن العالم العربى الذى انضم إلى معاهدة منع الانتشار النووى، خوفاً وجذعاً من الولايات المتحدة، ورغبة فى تقديم فروض الولاء والامتثال وإرضاء إسرائيل التى أصبحت تعطى خطاب التوصيات إلى البيت الأبيض، يجب عليها الآن أن تعيد النظر تماما فى موقفها بعد أن انحسرت إلى غير رجعة القوة الأمريكية التى كان للرئيس بوش الابن الفضل الأكبر فى إطلاق التفاعلات التى هيأت لهذه النتيجة، ولذلك فإننى أنصح الدول العربية أمام هذا التوحش الإسرائيلى الذى لم يعد له غطاء كاف، أن تعلن جماعة انسحابها من معاهدة منع الانتشار النووى، وأولها سوريا لكى تترك الباب مفتوحاً أمام الحسابات الإسرائيلية، ولكى يكون ذلك رداً على امتهان إسرائيل وأمريكا للتوسلات العربية طوال عقود ظلت فيها الدول العربية توهم نفسها بأن إسرائيل يمكن أن تتخلى عن قدرتها النـووية، وأن تحترم قواعد العيش المشترك وحسن الجوار، وأن تتخلى عن أوهام المشروع الصهيونى.
فى هذا الإطار فنحن نؤيد تأييداً تاماً بيان المندوب السورى فى المؤتمر العام للوكالة، الذى أكد فيه أن سوريا لن تضحى بأمنها القومى فى سبيل إرضاء الوكالة والتعاون معها، بعد أن رأى العالم بنفسه، كيف تتلاعب أمريكا وإسرائيل بالوكالة، وكيف عجزت الوكالة عن تطبيق ميثاقها على إسرائيل حتى دون أن تكون إسرائيل طرفاً فى معاهدة منع الانتشار النووى. هذا الموقف العربى المقترح هو أكبر خدمة لإعادة الاعتبار للوكالة وخدمة السلام العالمى والإقليمى، الذى أثبتت القرون أنه لا يستقر إلا بتوازن الردع، خاصة إذا كان فى المنطقة جسد غريب يمثل مخلفات عصر تجاوزته الإنسانية وهو العصر الاستيطانى الاستعمارى الذى تمثله إسرائيل.
العدوان الإسرائيلى على سوريا لا يلقى إدانة من الدول العربية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة