محمود عوض

حال الدنيا

رأسمالية رعاة البقر

الخميس، 30 أكتوبر 2008 03:23 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت قوى العولمة والخصخصة تنقلب على نفسها فى دولها التى روجت لها. لكن فى مصر، وفى يوم 30 أغسطس الماضى، وبعيدا عن الكاميرات أعلنت وزارة الاستثمار ممثلة للحكومة المصرية عن بيع «شركة الإسكندرية لكربونات الصوديوم» إلى شركة بلجيكية بمبلغ 760 مليون جنيه.الشركة من أعمدة القطاع العام الكبرى والرابحة، أولها خير. استلف الآن وسدد فيما بعد. اشتر الآن وادفع حين ميسرة. تخلص من سيارتك القديمة واستلم فورا سيارة جديدة آخر موديل. تملك هذه الفيلا الفاخرة فورا، ولن تدفع أول قسط إلا بعد سنتين. بدل هم النقود المتناقصة فى جيبك، خذ هذه البطاقة الائتمانية مجانا فيزا كارد، أو ماستر كارد، أو.. أو.. لتشترى بها كل ما تريد، بمجرد توقيعك على فاتورة الشراء، مع شهر أو شهرين فترة سماح للسداد.. إلخ.. إلخ.

تلك هى البداية الحقيقية لهذه الأزمة المالية غير المسبوقة، التى تواجهها دول عديدة اليوم. البداية من أمريكا، ومنها إلى العالم. والنتيجة: إفلاس شركات وبنوك فى أمريكا، ميزانيات بعضها تفوق ميزانيات دول عديدة فى عالمنا الثالث. للخروج من حالات الإفلاس تلك، انقلبت أمريكا على نفسها 180 درجة. هى من البداية اعتبرت نفسها قلعة الرأسمالية ومنارتها فى العالم. وبتلك الصفة طلبت من، وألحت على، كل دول العالم بعقيدة حرية الأسواق، وانكماش سلطة الدولة، لأن دور الدولة هو خدمة رأس المال.

الامبراطوريات السابقة قامت على أن رأس المال يخدم الدولة. أمريكا قلبت الآية. وفى آخر زيارة رسمية قام بها الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب إلى اليابان فى سنة 1991 اصطحب معه رؤساء أكبر ثلاث شركات أمريكية لصناعة السيارات، كأعضاء فى الوفد الرسمى ضغطا على اليابان، لتفتح سوقها أمام استيراد المزيد من السيارات الأمريكية، وفى مقدمتها ما تنتجه شركة جنرال موتورز. إنها نفس الشركة التى لم يجد السياسيون الأمريكيون غضاضة فى الإعلان صراحة عن أن «ما هو مفيد لجنرال موتورز مفيد لأمريكا».

الآن تلح نفس الشركات الثلاث على الحكومة الأمريكية، لإعطائها بلايين الدولارات من أموال دافعى الضرائب الأمريكيين، كقروض ميسرة تنقذها من الإفلاس. لم يكن اعتماد سبعمائة بليون دولار من الأموال العامة فى خطة عاجلة، لإنقاذ شركات الرهن العقارى والبنوك الأمريكية المفلسة، سوى دواء مر لتقليل خسائر قطاع خاص، سيجر الاقتصاد الأمريكى إلى مرحلة من الركود والانكماش والاستدانة ومزيد من البطالة.

خلال الستين سنة الأخيرة، واجهت الدول الرأسمالية أكثر من مائة أزمة مالية، تحولت فى عشرين حالة إلى ركود اقتصادى. الفارق فى هذه المرة تحديدا، هو أن أمريكا صدّرت أزمتها الداخلية إلى دول العالم. فى هذا الشهر ركزت جريدة بريطانية عنوانها الرئيسى فى الصفحة الأولى، لتجعله رقما واحدا بدل كلمات عديدة. الرقم هو «2» وعلى يمينه 12 صفرا. المعنى: إن تكلفة خطط الإنقاذ التى وضعتها دول العالم حتى الآن للفكاك من عواقب الأزمة الأمريكية، بلغت تريليونى جنيه استرلينى أو ما يزيد على 3.4 تريليون دولار.

المشكلة الأولى فى هذا الرقم هى ضخامته. لكن المشكلة الأهم هى أنه ليس بعد الرقم النهائى. فأسوأ ما كشفت عنه الأزمة الحالية، هو أن كبار السياسيين المسئولين المنتخبين من شعوبهم، لا يعرفون الحجم الحقيقى الذى تورطت إليه بنوكهم ومؤسساتهم المالية.

مستشارة ألمانيا مثلا رفضت فى البداية أن يكون لبلدها علاقة بالأزمة، استنادا إلى أن الأزمة سببها أمريكا، وبالتالى فمسئولية الخروج منها تصبح على أمريكا. الرئيس الفرنسى جلجل صوته فى البداية بأنه لن يسمح لما جرى فى أمريكا بأن يتكرر فى فرنسا. كلاهما أخطأ وكلاهما أفاق يوما بعد يوم على حقيقة أن الفيروس الأمريكى، قد تغلغل أيضا فى المؤسسات المالية الوطنية، بعيدا تماما عن أى رصد أو رقابة. مؤسسات الاستثمار من النرويج حتى أيسلندا، بل حتى البنوك السويسرية المعروفة بالدقة والصرامة فى إجراءاتها، انزلقت إلى فخ الأدوات المالية الملتوية المستجدة، التى استخدمتها بنوك الاستثمار وشركات الرهن العقارى الأمريكية، وتبين فى لحظة الحقيقة أن أرباحها الأعلى لم تكن سوى هدايا مسمومة.

وبينما السياسيون على مستوى نيكولا ساركوزى فى فرنسا وأنجيلا ميركل فى ألمانيا، أصبحوا آخر من يعرف، وهذا هو الزلزال الحقيقى، فإن هذا الإعصار المالى الأمريكى كان لائحا فى الأفق مبكرا لكل من يريد أن يرى. جوزيف ستيجليتز مثلا، وهو أستاذ الاقتصاد الأمريكى الفائز بجائزة نوبل، حذر مبكرا من وقوع هذا الإعصار. وحتى جورج سوروس رأى مبكرا إرهاصات بأوضاع غير طبيعية فى سوق المال، وهو المضارب الأمريكى الشهير والسمسار المالى وأشياء أخرى.

أمريكا اختارت ألا ترى، ولأسباب قد لا نعرفها فعلا إلا مستقبلا. لكن الواضح الآن هو أن أمريكا سحبت معها دولا عديدة لكى لا ترى. كان استدراج المواطن الأمريكى إلى وهم الحياة فوق قدراته هو الباب إلى الجحيم. جحيم الحصول على قروض سهلة ثم قروض جديدة لتسديد القروض القديمة.وحينما تحايلت البنوك الأمريكية لابتكار أدوات مالية تغرى بها الأموال الأجنبية لشراء تلك الأوراق المالية، لم نعد أمام أزمة أمريكية. لقد فوجىء ساسة العالم بأنها أصبحت أزمة دولية ،وأن الأدوات المالية الأمريكية المسمومة، قد اخترقت بنوكهم وهم نائمون فى العسل.

الكل خرج يدين أمريكاعلنا، ويحملها مسئولية استدراج العالم إلى هذه الأزمة.جوردون براون رئيس وزراء بريطانيا، وهو التابع الأمين لأمريكا وكان يستعين بجريسبان، المحافظ السابق للبنك المركزى (الفيدرالى) الأمريكى مستشارا ماليا له، اضطر للقول علنا إن ما يجرى حاليا يثير تساؤلات جوهرية حول مفاهيم العولمة. فرانسوا فيون رئيس وزراء فرنسا كان أكثر صراحة، فطالب بوضع قواعد للنظام المالى الدولى وألا يستمر السماح لأمريكا بالاستمرار فى الاستدانة من الآخرين إلى ما لا نهاية على حساب باقى العالم، بعد أن أسفرت الأزمة عن نتائج مرعبة، داعيا إلى «رأسمالية أقل وحشية». رئيسه ساركوزى دعا إلى عقد قمة دولية، تكون لها مهمة واحدة هى «إعادة تأسيس رأسمالية أكثر احتراما للإنسان».

الرئيس الروسى ديمترى ميدفيديف قال: «إننا ندفع ثمن أخطاء خطيرة ارتكبتها أمريكا قبل سواها». رئيس ألمانيا طالب بأن يعترف رؤساء البنوك الأمريكية أولا بخطاياهم، التى جرجروا إليها بنوكا أخرى فى أوروبا والعالم. حتى جوردون براون، رئيس وزراء بريطانيا، أقر بأن «هذه الأزمة جاءت من أمريكا» وبادر باستخدام عنوان «التأميم» صراحة لإجراءاته.

أما على مستوى العالم الثالث، فإن لويس لولا داسيلفا، رئيس البرازيل فكان الأعلى غضبا فى رفضه أن تكون الأسواق الناشئة هى «ضحايا رأسمالية كازينو القمار»، التى أدارها الأمريكيون أنفسهم.

كان أصل المشكلة كما ذكرت، هو إغراء المواطن الأمريكى بأن يعيش فى مستوى أعلى مما تسمح به موارده، ويعوض الفارق من القروض السهلة من البنوك. وأمريكا كدولة أصبحت هى أيضا تتجاوز مواردها بالاقتراض من الدول الأخرى. وهكذا فإن الدين القومى الأمريكى، قفز من ثلاثة تريليونات دولار فى سنة 1990 ليصبح 10.2 تريليون دولار الآن.

ولتعويض تلك الديون المتزايدة، كان لابد لأمريكا من رفع راية «العولمة» وتحديدا الإلحاح على الدول الأخرى، بفتح أسواقها أمام دخول وخروج الأموال الأجنبية، بحجة أن هذا ضرورى للتنمية. بعدها تابع العالم خروج سلالة جديدة من المضاربين الأمريكيين إلى أسواق المال ومضارباتهم كانت- سابقا- ممنوعة فى أمريكا ذاتها. لكنهم استجابوا لدقات خشبة المسرح، سواء بحد ذاتهم، أو كممثلين لنوع جديد من الصناديق المالية اسمه «صناديق التحوط»، بعيدا تماما عن أى رقابة أو ضوابط من البنك المركزى الأمريكى، وبسياسات مقصودة ومخططة عمدا.

هكذا فوجئت بريطانيا مثلا، المنضمة فى حينها إلى نظام جديد للنقد الأوروبى بمراهنات كاسحة فى سبتمبر 1992 لإرغامها على تخفيض قيمة عملتها. مراهنات عجز بنك انجلترا المركزى بكل قدرته عن الصمود أمامها، فانتهت المواجهة بانسحاب بريطانيا من النظام الوليد للنقد الأوروبى، وعادت أكثر ارتباطا بالدولار الأمريكى وأكثر اعتمادا على علاقتها الخاصة بأمريكا، ابتعادا عن المشروع الأوروبى. بعدها خرج جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا، ليشكو علنا فى أبريل 1995 قائلا إنه: «لا يجوز ترك العمليات فى أسواق المال تتم بسرعة وبحجم كبير، بحيث لم تعد تخضع لرقابة الحكومات والمؤسسات الدولية». فى حينها أيضا قال لامبرتو دينى، رئيس وزراء إيطاليا، إنه «يجب منع الأسواق من تقويض السياسات الاقتصادية لدول بكاملها». أما الرئيس الفرنسى جاك شيراك وقتها، فقد وصف أولئك المضاربين الجدد فى أسواق المال بأنهم «وباء الإيدز فى الاقتصاد العالمى».

كان جورج سوروس المضارب الأمريكى، هو أبرز المضاربين ضد الجنيه الإسترلينى فى سنة 1992 وتبين تاليا أن أرباحه من العملية تجاوزت بليون دولار. وكان هو أيضا فى مقدمة المضاربين على عملات دول جنوب شرقى آسيا فى أزمة 1997 التى أسفرت عن انهيار عملات تلك الدول بالتتابع، بما أتاح لصندوق النقد الدولى فرض الوصاية عليها جميعا، باستثناء ماليزيا وهو ما كان مستهدفا من البداية.

الآن فى أزمة 2008 المستجدة، نجد أمريكا تقوم صراحة بتأميم بنوك وشركات، وإن يكن باسم «الاستحواذ» تلطيفا.. حتى إن مجلة «الإيكونوميست» فى لندن، تسجل أن البعض قد يرى أن بنك الاحتياطى الفيدرالى (البنك المركزى) الأمريكى ووزارة الخزانة الأمريكية، أقدما على تأميم الاقتصاد بأسرع مما كان يمكن أن يفعله هوجو شافيز، رئيس فنزويلا.

جريدة «الفاينانشيال تايمز» فى لندن، وهى للرأسماليين كما كانت جريدة البرافدا للشيوعيين، تنشر مقالا لأندرو سيمز مدير السياسة فى المؤسسة الاقتصادية الجديدة فى لندن يقول فيه: «إن هذا الإعصار المالى الأخير هو بالنسبة للرأسمالية المالية معادل لما مثلته سنة 1989 بالنسبة للشيوعية السوفيتية». المعنى الذى يقصده هو أنه فى الحالتين: وصلنا آخر الخط وخطر الانهيار. ونجد جون جراى أيضا يستخلص النتائج فى جريدة «الأوبزيرفر» قائلا: «إننا نعيش الآن منعطفا تاريخيا بمفهوم الجغرافيا السياسية. منعطفا يتبدل فيه توازن القوى على وجه كوكبنا بلا رجعة، فعصر الهيمنة الأمريكية الذى بدأ مع الحرب العالمية الثانية قد ولى». «الفاينانشيال تايمز» أيضا فى مقال افتتاحى، طالبت الفكر الرأسمالى بأن يغير من آلياته لكى يحسن من صورة الرأسمالية، التى أصبحت سمعتها فى الحضيض. لكن كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، خرجت لتقول بأعلى الصوت إن «صورة الرأسمالية والنظام الرأسمالى فى العالم لا تزال جيدة.. بل حتى بعد الأزمة الراهنة لايوجد بديل عن الرأسمالية».

هذا يعيدنا إلى مصر.. وموقعنا من تلك الأزمة.عندنا أيضا فى مصر محمود محيى الدين، وزير الاستثمار الذى نشر عنه فى 20 أكتوبر قوله إن الرأسمالية لم تسقط، ولا عودة إلى الاشتراكية (مع أن أحدا لم يتكلم عن الاشتراكية) وأن الإصلاحات الاقتصادية التى نفذتها مصر قبل أربع سنوات، جنبت البلاد أزمة سيولة. نفس الرأى قاله فى نفس اليوم رشيد محمد رشيدو وزير التجارة والصناعة من الرياض، مع أنه قبلها بيومين أعلن أن نمو الاقتصاد المصرى سيتراجع إلى ثلاثة بالمائة والبطالة ستتزايد. أما السيدة عائشة عبد الهادى، وزيرة القوى العاملة فأعلنت بكل جرأة: «نحن وفرنا خلال ثلاث سنوات 2.7 مليون فرصة عمل منها 700 ألف خارج البلاد، وهناك 350 ألف وظيفة لا تجد من يشغلها»! أما الدكتور يوسف بطرس غالى فقال بكل ثقة، إن معدلات التنمية فى مصر ستواصل ارتفاعها خلال العام الحالى لتصبح 7.2 بالمائة!

كانت قوى العولمة والخصخصة تنقلب على نفسها فى دولها التى روجت لها. لكن فى مصر، وفى يوم 30 أغسطس الماضى، وبعيدا عن الكاميرات أعلنت وزارة الاستثمار ممثلة للحكومة المصرية عن بيع «شركة الإسكندرية لكربونات الصوديوم» إلى شركة بلجيكية بمبلغ 760 مليون جنيه.الشركة من أعمدة القطاع العام الكبرى والرابحة، وهى الوحيدة التى تنتج كربونات الصوديوم، التى تدخل فى إنتاج أكثر من 24 صناعة مصرية وتغطى ستين بالمائة من احتياجات الاستهلاك المحلى، ولم تشهد أى خسائر مالية سابقا. بل إنه قبل ثلاثة شهور فقط ألحت لجنة الصناعة، وهى المختصة فى البرلمان، على الحكومة بالتوقف عن التفكير فى بيع تلك الشركة الهامة والرابحة.

لكنها بيعت فجأة فى 30 أغسطس الماضى، لتخسر مصر مرتين. مرة بخسارة الأرباح السنوية التى كانت تحصل عليها من الشركة، ومرة لأنه من الآن فصاعدا سيتم تحويل تلك الأرباح إلى بلجيكا أولا بأول. وبينما الإعلام المصرى كله عاما وخاصا، محتشد لمتابعة قضية مثيرة ومستفزة عنوانها هشام مصطفى، باعت الحكومة المصرية واحدة من مجوهرات العائلة برخص التراب، كما أصبح مألوفا.. ولخواجه بلجيكى.

المفارقة.. وكم أصبح لدينا من مفارقات، أنه فى نفس اليوم كانت حكومة بلجيكا، وفى سياق الأزمة الكبرى، تقوم بتأميم بنك ضخم هو من أكبر عشرين بنكا على مستوى أوروبا، فى خطوة مشتركة مع هولندا ولوكسمبورج. وكان هذا بحد ذاته قبل شهرين من توجه الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى، لإقامة صندوق حكومى لتمويل الشركات الاستراتيجية الكبرى فى الاقتصاد الفرنسى خلال الأزمات، بهدف قطع الطريق على أى مستثمرين أجانب قد تغريهم الظروف بالسعى إلى شراء تلك الشركات.

أصحاب مولد العولمة، والخصخصة، وحرية السوق، و«رأسمالية رعاة البقر»، بتعبير كاتب أمريكى ينقلبون على أنفسهم حفاظا على الكثير مما يمتلكون. ونحن هنا فى بلدنا مستمرون فى التفريط بالقليل الذى نملكه، وراثة عن آباء تعبوا فى بنائه، ولم يدر فى خلدهم أبدا ذلك المصير.

كان أولها خير. والآن آخرتها بيع. ألف خسارة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة