إيماناً بضرورة دعم المواهب الجديدة فى مجال الثقافة والأدب، ينشر موقع اليوم السابع بعضاً من أعمال القراء الأدبية، وفيما يلى قصة قصيرة للقارئ حسام أبو سعدة، نرجو أن تنال إعجابكم:
انتظار
ذهب أبناها يلهوان بالكرة مع أصدقائهما، وجلست "فاطمة" تتناول الشاى بمفردها فى الشرفة. الدار مقامة على أطراف مدينة "عمان" العريقة. الصحراء مترامية الأطراف. القطار يمر من بعيد لا يأبه لأحد. خلف قضبان السكة الحديد تمتد مزارع الزيتون والنخيل. النخيل يتمايل، يترنح وكأنه يبكى وينتحب وهو يودع الشمس إلى مثواها الأخير...
رأت سيارة زوجها "مروان" تقترب، يبدو أن هناك ضيفاً برفقته استنشقت نفساً عميقاً فى استسلام، ثم اتجهت إلى المطبخ لإعداد العشاء. سمعت زوجها وهو يرحب بضيفه. وبعد قليل رأته بجوارها فى المطبخ وعلى شفتيه ابتسامة مضطربة، سألته عن السبب فأجاب:
ضيفنا تاجر من منطقة "السلط".
تحجرت "فاطمة" فى مكانها دون أى حركة، لمعت عيناها ببريق الذهول ثم سألت بصوت متهدج:
◄ماذا تقصد؟
◄الرجل يقول إن لديه أخبار عن "مريم".
انتفضت كل عروقها وهى تقول فى عناد:
◄سنسافر الآن.
حاول "مروان" أن يبدو متماسكاً وهو يربت على كتف زوجته ويقول:
◄سنسافر مع آذان الفجر.
ألقت "فاطمة" الأطباق التى كانت على المنضدة وهى تصرخ فى جنون:
◄سنسافر الآن.
اقتحم الضيف المطبخ وهو يسأل عما يحدث، فراحت "فاطمة" تضرب المنضدة بكل ما أوتيت من قوة وهى تصرخ باكية:
◄سنسافر الآن… الآن…
فى الطريق كان الظلام موحشاً والضباب مرعباً. استندت "فاطمة" برأسها على نافذة السيارة، ارتجفت رجفات خفيفة سريعة مع الطريق، ثم أغمضت عينيها فى استسلام.
لقد عبرت هذا الطريق من قبل ولكن فى الاتجاه المعاكس. حدث ذلك منذ ستة سنوات تقريباً، حدث ذلك فى عام 1967، عندما هاجم الجيش الإسرائيلى مدينة "القدس". فى هذه الأيام راح "مروان" يلملم كل ما خف وزنه وغلا ثمنه، ثم فروا هاربين فى اتجاه الأردن، وفى منطقة وادى الكرامة التقوا بكتيبة عسكرية تابعة للجيش الأردنى، كانت الكتيبة فى طريقها إلى منطقة "السلط". وافق القائد على انضمامهم للكتيبة لحمايتهم من مخاطر الصحراء والهجوم الإسرائيلى الكثيف. عاون الأب الطفلين على الصعود إلى أحد العربات، بينما حمل أحد الضباط الطفلة الرضيعة "مريم" حتى تتمكن "فاطمة" من الصعود إلى العربة المرتفعة، وفى أثناء ذلك عاودت المروحيات الإسرائيلية هجومها. اشتعلت النيران فى كل مكان، زلزلت الأرض تحت الأقدام، جرى الجميع كل منهم يختبئ فى مكان مختلف. وعندما ذهبت المروحيات خرجوا من مخابئهم، لم يكن هناك سوى "مروان" والطفلان و "فاطمة"، راحوا يفتشون عن "مريم" بين العربات العسكرية المشتعلة، الجثث تتكاثر فى كل مكان، الأرض تشرب الدماء، رائحة النابالم تزكم الأنوف… اختفت "مريم" والضابط الذى كان يحملها. فتشوا فى كل الكهوف والجحور، صرخت "فاطمة" بكل قوتها تنادى "مريم".. فراح صوتها يجلجل فى الصحراء دون مجيب..
ذهبوا إلى مدينة "السلط"، حاول الأب البحث فى السجلات العسكرية عن أسماء الضباط الذين كانوا فى الكتيبة. اتصل بهم جميعاً دون جدوى.. وفى النهاية قال أحد القادة:
◄لو كنتم تقصدون الكتيبة "76 مدرعات"، للأسف لم يعد منها أحد.
عندما سمعت "فاطمة" ذلك سقطت مغشياً عليها. طالت فترة الغيبوبة إلى أن استدعوا الطبيب. أمر الطبيب بحجزها فى غرفة مظلمة بمفردها. حذر زوجها من أى صوت أو ضوء، ارتفاع ضغط الدم الشديد المفاجئ الذى حدث قد يصيب خلايا المخ بالتلف. لابد من الالتزام بالهدوء والحذر الشديد. لولا الولدان لاستسلمت "فاطمة" للمرض حتى الموت. لم تقاوم وتجاهد إلا من أجلهما.. استعادت عافيتها فى خلال بضعة أسابيع. ورحلوا جميعاً إلى مدينة "عمان".
عندما استأجر "مروان" هذه الدار على أطراف المدينة، أعدت "فاطمة" حجرة خاصة لـ"مريم" وهى تقول لزوجها: لابد ستعود يوماً من الأيام. يجب أن يكون لها حجرة منفصلة عن حجرة الغلامين.. فراح يربت عليها برفق موافقاً، وإن كان فى داخله قد استسلم تماماً للأمر الواقع وبدأ يعاود نشاطه التجارى مرة أخرى...
واليوم، التقى مصادفة بهذا التاجر. قص عليه قصة "مريم" لمجرد الثرثرة فقط، فإذا بالتاجر يخبره بأن هناك طفلة فى السادسة من العمر الآن، أتى بها أحد الضباط إلى "السلط" وقد قامت إحدى نساء البلدة بحضانتها ورعايتها...
انتقضت عروق "مروان" فى عصبية، انفجر بركان الأمل من جديد من يدرى؟! .. ربما تكون الكتيبة التى لاقوها تختلف عن الكتيبة "76 مدرعات".. وهم الجميع بالرحيل فى قلق..
وصلوا إلى البلدة بعد منتصف الليل، راحوا يجوسون فى الظلام وكأنهم أرواح هائمة شقية تبحث عن ضالتها، بينما راحت "فاطمة" تقفز فى نشوة، تتعثر فى الظلام، تضم جلبابها وهى تضحك فى جنون، ثم تقول فى تهدج:
◄كنت أشعر بها دائماً على قيد الحياة.. أسمعها أثناء الليل وهى تنادينى.. قلب الأم لا يكذب أبداً.. أبداً.
◄اقتحموا الدار فى غبش الظلام. اعتصرت "فاطمة" الطفلة الهزيلة التى أشارت إليها ربة المنزل.. اختلطت دموع الابنة بدموع الأم. بكى الجميع فى فرح، زغردت صاحبة الدار، وإن كان قلبها يخفق بشدة لمرارة الفراق، بينما راح "مروان" ينتزع الطفلة فى عصبية من أحضان "فاطمة" الملتاعة، فحص قدمها اليسرى ثم صرخ فى جنون:
◄هل جننت؟.. أعقلى.
سألت صاحبة الدار فى قلق:
◄ماذا تقصد؟
أجاب "مروان" والعرق يتفصد منه بغزارة:
◄إنها مثل ابنتى، وليست ابنتى.
سأل التاجر فى ذهول:
◄كيف عرفت ذلك بمثل هذا السرعة؟
ألقى "مروان" بكل ثقله على المعقد فى استسلام ثم قال:
◄فى الطريق كنا نقضى الليل فى الكهوف. وفى أحد هذه الكهوف التهم الفأر أصبع قدم "مريم" اليسرى.. وقدم هذه الفتاة سليمة..
عادت "فاطمة" إلى عمان وهى تمسك برأسها. طنين غريب يصم أذنيها.
طلقات نارية تخترق رأسها. انفجار البارود مصحوباً بالموسيقى الصاخبة، ثم ضحكات ماجنة ساخرة. منذ هذا اليوم أصرت على المبيت بمفردها فى حجرة "مريم"، وافق زوجها على مضض. وبعد يومين حاول مداعبتها، فنهرته قائلة:
◄"مريم" التحقت بالمدرسة.
تحجر فى مكانه وهو ينظر إليها متشككاً، فقالت مؤكدة:
◄رأيتها بالأمس تجلس فى حجرتها، تخط بيدها الصغيرة كلمات بسيطة فى خط متعرج. تهز رأسها من حين لآخر سعيدة بضفيرتها الطويلة. تحك رأسها بيدها وهى ممسكة بالقلم محاولة التركيز فى دروسها، فيخط القلم على وجهها دون أن تشعر بذلك. فأخذت بيدها لأعينها على الكتابة...
احتقن وجه "مروان" بدماء الغضب، ثم قال ثائراً:
◄يجب أن تعلمى أن "مريم" ماتت. يجب الاهتمام بطفلينا لأنهما المستقبل. اتهمته "فاطمة" بالأنانية والجشع، يبحث عن المال فى كل مكان ويهمل البحث عن ابنته... خرج "مروان" من الدار غاضباً. أصبح لا يأتى إلا نادراً.. علمت من الجيران أنه تزوج بأخرى، اشترى لها دارا أخرى قريبة من هنا، يقضى معها أوقات سعيدة وحياة هانئة وادعة، بعيدة عن الأوهام والأحزان...
لم تحاول استعادة زوجها، لم تعاتبه أو تناقشه.. أصبحت تخدم طفليها طوال النهار بجد وإخلاص وكأنها جارية تنفذ أوامر أسيادها دون نقاش. تخرج إلى السوق لشراء لوازم البيت دون أن تبدل ثيابها. تترك شعرها مهوشاً.. تتشاجر أحياناً مع البائعين لأتفه الأسباب. وأحياناً أخرى تصمت لمدة أسبوع كامل... تمر الأيام وهى تفقد أنوثتها وكل إحساس بالحياة.
وفى ذات يوم استيقظت من نومها فى قمة السعادة، راحت تغنى وترقص وهى ترتدى ملابس جديدة، مشطت شعرها بدقة وضعت بعض مساحيق التجميل، ثم انطلقت توزع أكواب الشربات على الجيران وهى تجيب كل من يسألها عن السبب بصوت مرح:
◄"مريم" التحقت اليوم بكلية الهندسة
مصمصت الجارات شفاههن فى شفقة، فراحت تؤكد لهن:
◄"مريم" نفسها هى التى أخبرتنى بذلك. كافحت المسكينة كثيراً لكى تكون مهندسة تبنى وتعمر كل مكان. منذ هذا اليوم، بدأ الشعور بالارتياح يجتاح نفسها، ربما يكون هذا الارتياح ناتجاً عن ثقة المؤمن بربه... أو الاستسلام لقضائه.. لا أحد يعرف.. أصبحت تخدم ولديها بنفس راضية، تتعامل مع الجيران والبائعين برصانة.. وعندما ينقضى النهار، تخلد إلى النوم فى هدوء وهى تؤكد لنفسها أن المروحيات الإسرائيلية لم ولن تقضى على حياة "مريم".
ولكن.....
دائماً ولكن..
فترات السعادة لا تدوم كثيراً. كبر الولدان. رحل الابن الأكبر إلى "دمشق" لتنمية تجارة والده، وبعد عدة أشهر رحل الابن الأصغر إلى "القاهرة" بحثاً عن أسواق جديدة.. وبقيت "فاطمة" وحدها فى الدار الكبيرة..
راحت تتجول بين حجرات الدار بمفردها. دقات حذائها تتردد عالية فيرتجف القلب برهبة. وفى أثناء الليل يسمعها الجيران وهى تصرخ وتنتحب، تنادى أولادها الثلاثة دون مجيب...
شعرت بشبح الموت يحوم حولها فقررت الرحيل إلى دمشق لقضاء بضعة أيام مع ابنها ثم إلى القاهرة لقضاء أيام أخرى مع ابنها الأصغر.. لا يوجد ما هو أبشع من أن يموت الإنسان وحيداً دون أن يشعر به أحد.
لملمت بعض حاجياتها القليلة وانطلقت إلى الحافلة الذاهبة إلى "دمشق" وفى الطريق وقفت الحافلة فى منطقة"الرمان" للاستراحة. كان الناس يهرولون إلى المسجد الأبيض لأداء صلاة العشاء فانطلقت معهم. وبعد الصلاة مددت جسدها المتعب بحثاً عن بعض الراحة.
شعرت بعصا تنغرس فى جنبها، وهبت جالسة لترى أمامها شيخاً عجوزاً يرتدى جلباباً أبيض، له لحية بيضاء كثيفة، عيناه تلمعان ببريق الثقة والإيمان قال الشيخ متبسماً فى هدوء:
◄يجب أن نغلق المسجد الآن. المبيت هنا ممنوع.
خرجت من المسجد تتلفت حول نفسها فى جزع. رحلت الحافلة.. ماذا تفعل؟.. ليس معها نقود أو أى أوراق تثبت شخصيتها.. لا تعرف أحد هنا.. لاحظ الشيخ ارتباكها. علم بحكايتها فربت على كتفها برفق قائلاً:
◄سأحضر لك العشاء الآن. وفى الصباح سأدفع لك مصاريف الرحلة من أموال الزكاة الموجودة فى المسجد.
بكت وهى تقول:
◄ليس لدى أى رغبة فى الطعام؟
◄ماذا تريدين إذن؟
◄انفجرت فى البكاء مثل طفل صغير ثم قالت فى تهدج:
◄أريد رؤية أولادى. أريد الاطمئنان على"مريم" قبل أن أموت، ثم راحت تقص عليه قصة "مريم" وصدرها يعلو ويهبط فى تشنجات عنيفة.. بينما الشيخ يدك الأرض بعصاه فى انفعال من حين لآخر وهو يردد: يا الله.. يا كريم.. يا أرحم الراحمين...
◄وبعد أن فرغت من حديثها، ارتجف وهو يقول بتهدج:
◄أنا الذى ربيت ابنتك، إنها هنا، على بعد خطوات، تعيش مع زوجها وابنها الرضيع. ابنتك هى التى شيدت هذا المسجد بعد أن درست الهندسة المعمارية.
ألقت "فاطمة" بكل ثقلها على يد الشيخ تقبلها، وهى ترجوه وتتوسل إليه أن يذهب بها إلى "مريم" الآن.
أخذت "فاطمة" ابنتها فى أحضانها بعد فراق طال أكثر من ربع قرن.. بكى الجميع فى فرح وشجن وألم.. وبعد أن هدأت ضجة اللقاء، حاولت "مريم" إطعام أمها بيدها لعل هذا يخفف عنها بعض الحرمان، بيد أن "فاطمة" رفضت بشدة وهى تقول:
◄لا أرغب إلا فى النوم بهدوء، وحفيدى فى حضنى.
جرت "مريم" تعد فراشاً وثيراً فى عجالة. وفى الصباح، أيقظوا "فاطمة" فلم تستيقظ.
فاضت روحها إلى ربها الكريم بينما كان الحفيد يلهو بجوارها فى الفراش.
حسام أبو سعدة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة