ما بين "باب الحارة" و"أهل الراية" و"بيت جدى", تشابهات كثيرة, وربما استنساخات أيضا, ولا عجب فكاتب "باب الحارة" هو ذاته كاتب "بيت جدى", والمشرف العام على "بيت جدى"، هو ذاته مخرج "أهل الراية", ناهيك بأن الأعمال فى مجملها تأتى استجابة لموجة كرستها محطة الـ"إم بى سي" السعودية, لأسباب لها جوانبها التجارية "ولو بنسبة قليلة".
وقبل أن نكمل, لا بد من الإشارة إلى أن مسلسلى "الحصرم الشامى" و"أولاد القيمرية" لا يدخلان فى إطار هذه القراءة, كونهما عرضا على قناة مشفرة, ولم يتح للجمهور العريض الاطلاع على محتواهما, كما لا بد من الإشارة بداية إلى أن "أهل الراية" و"بيت جدي" حققا تقدما ملحوظا فى المتابعة الجماهيرية أمام "باب الحارة" الذى جاء (فى جزئه الثالث) باهتا, لأنه ببساطة كان أمينا لذاته, وسار فى سياقه السابق ذاته, بعد أن تخلى عن شخصية "أولاد عشري" ثم "أبو عصام" التى تكفلت كل منهما بإضفاء مسحة من تشويق مقبول وسط ركام الحكاية الباهتة أصلا، والتى بقيت بمفردها فى الجزء الثالث, فانفض من حولها الناس.
معظم الأعمال البيئية (منذ نشأ المصطلح مع أيام شامية), تعتمد حكاية متخيلة بسيطة, لا تبتعد عن حكايات الجدات, ولا تحمل مقولات كبرى, أو صغرى أحيانا, وتنطلق من حدث بسيط لا يحتمل التعقيد, فى بيئة وحيدة الجانب, وزمن مفترض وهلامى لا علاقة له بالتاريخ الحقيقى, وشخصيات أبعد ما تكون عن الواقعية، وعن "اللحم والدم", حيث تكون طهرانية ملائكية أحيانا, وبالغة السذاجة فى غالب الأحيان, فيما تتصف الشخصية الشريرة فى هذه الأعمال بالشر المطلق, ولا بأس أن نركن إلى القضاء والقدر لحل المشكلات الدرامية العالقة كما فى ثعبان "باب الحارة" (الجزء الأول), الذى يقتص من اللص والقاتل و(حالف اليمين الكاذب) .. وكما تقول الأغنية (اللى بيحلف يمين كاذب يا ويلو من الله), وهو ما يعفى الكاتب من البحث عن أى قصاص درامى للشرير أو (العواينى والداسوس).
هذا المطب الأساسى كان موجودا فى "بيت جدي", وأمكن الالتفاف عليه إلى حد ما فى "أهل الراية", لكنه تجلى بشكل يفقأ العين فى الجزء الثالث من باب الحارة .. هذا الجزء الذى راهن عليه الكثيرون لتقديم جرعة درامية أفضل من الجزء الثانى, لكن خاب الظن بالطبع .. فما بنى على فبركة درامية عرجاء لا يمكن أن يستقيم .. لكن المفاجأة فعلا, أن الجزء الثالث جاء أضعف وأكثر ركاكة من سابقه, ولم يستطع الاحتفاظ بجمهوره الذى انفض عنه سريعا.
إنها الفانتازيا
بداية, لا بد من ملاحظة أن "باب الحارة" حمّل ما لا يحتمل سواء من صنّاعه أو من نقاده, وهو, ليس أكثر من حكاية بسيطة مسلية, تناسب مشاهدا يبحث عن مشاهدة مريحة لا تتعب الرأس, ولا تتطلب إعمالا للتفكير, لكن المشكلة أن صناع العمل يؤكدون دائما أن عملهم يدافع عن القيم النبيلة, والتقاليد العظيمة, بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك لدرجة أن يقول أحدهم إن العمل سيهز إسرائيل, بينما فى الجهة المقابلة نقاد العمل ذهبوا بعيدا فى انتقاده، فاعتبروا أنه دعوة للانغلاق والتخلف, وأساء للمرأة, وهذا بالتأكيد بعيد كل البعد عن هدف النص وغايته.
ولعل قراءة متأنية للعمل تثبت أن كلا الاتجاهين خاطئ, أولا وقبل كل شيء لأن "باب الحارة", وكما يعرف هو عن نفسه لا يوثق ولا يؤرخ, وليس معنيا بذلك, ولو راجعنا كل تصريحات صناع وفنانى أعمال البيئة عموما سنجد ذاك التأكيد موجودا دون مواربة. إذن نحن ببساطة أمام "فانتازيا" من قالب بصرى يستعير ملابس وإكسسوارات يعتقد صناع تلك الأعمال أنها شامية, وحتى هذه بالمناسبة, ليست موثقة وليست صحيحة فى غالب الأحيان.
فى "باب الحارة" لسنا أمام عمل دمشقى بالتأكيد, ويمكن أن نثبت الأمر ببساطة, فالمكتبة العربية والفرنسية وربما العالمية, تغص بالمذكرات والدراسات حول دمشق فى مراحلها التاريخية المختلفة .. وعلى سبيل المثال يمكن لنا أن نعود إلى مذكرات الكاتب الراحل نجاة قصاب حسن ومنها "حديث دمشقي", عن دار طلاس 1988. وبالمناسبة, فالكتاب يتضمن صورا فوتوغرافية, منها صورة أخذت لساحة المرجة فى العشرينيات, يظهر فيها أناس وعربات خيل, والغريب أن أيا من الموجودين فى الصورة لا يرتدى شيئا يشبه ما جاء فى "باب الحارة"!!
وهناك كتب مصورة عديدة لمستشرقين فرنسيين تتضمن صورا لدمشق وأهلها وأزيائها فى الثلاثينيات, والمهم, لو راجعنا كتب المذكرات أو الكتب التى توثق لدمشق, ومنها إضافة إلى المذكور كتاب "يا شام" لمنير الكيال, أو "مدينة دمشق تراثها ومعالمها التاريخية" لعبد القادر الريحاوى (دمشق 1969) أو مجموعة كتب لقتيبة الشهابي, وغيرها كثير, سنكتشف حجم (المشكلة) فى "باب الحارة", وسنرى أن الأحداث والعادات والتقاليد والأزياء والشخصيات ومنطوق الشخصيات, والتوصيفات والأسماء وشكل الحارات والأزقة, وشكل الدرك والشرطة ودورهم, وعموم جغرافيا وديموغرافيا وتاريخ دمشق, فى العام 1930ـ وهو زمن "باب الحارة" ـ لا يتقاطع من قريب أو من بعيد مع ما جاء فى المسلسل.
إذن، "باب الحارة" ليس عملا بيئيا ببساطة, ولا يمكن محاكمته كعمل بيئي, وبالتالى تصبح الآراء المبنية على أساس بيئيته عرجاء, وافتراض العودة إلى الزمن الجميل والدفاع عن القيم ليس صحيحا, كما لا يمكن اعتباره دعوة للانغلاق أيضاً.
أين واقع المرأة؟
إن العمل لا يسيء إلى المرأة, فالعمل يورد المرأة فى سياقه الفانتازي, بالرغم من أنها لا تتعرض لأى عنف أو إذلال من الرجل, (وحتى الشتائم تأتى من المرأة للمرأة, سواء أم أو جارة), ولعل مراجعة بسيطة لحال المرأة فى دمشق فى العام 2008, ستكشف كم كانت المرأة فى المسلسل الفانتازى "باب الحارة" مدللة, ومكرمة .. فالجزء الثانى بالكامل يبنى على طلاق أبو عصام الذى يحدث لأن زوجته قالت له (فشرت) وأى عابر أو دارس أو مثقف يعرف دمشق, يعرف أن لا امرأة فى دمشق, بالمطلق, يمكن أن يخطر ببالها أن تقول لزوجها كلمة كهذه, ولا أتحدث هنا عن الشوارع بل عن البيوت, ولا يمكن لامرأة دمشقية, (الآن وليس فى العام 1930) أن تفكر بأن تقول كلمة كهذه لزوجها, ليس احتراما فقط, بل خوفا أيضا, أو بالأحرى هى ثقافة وطريقة تفكير, فالفتاة الدمشقية تربى على احترام زوجها, وعلى طاعته... هذا جانب... والجانب الآخر تتحدث عنه المحاكم, هذا الخروج على طبيعة المرأة الدمشقية فى (فشرت) يرتبط بكل الشخصيات النسائية فى "الحارة", من فريال التى لا تقيم وزنا لزعيم أو قبضاى أو صهر, كأنما هذه المرأة تربت فى شيكاغو وليس فى الحارة التى يفترض المسلسل أن المرأة فيها مضطهدة, ويتعزز الأمر فى الجزء الثالث وأبو حاتم يدارى بناته برموش عينيه, وحين تتردد ابنته بالموافقة على زواجها من العكيد, (أكرر العكيد), يقول أبو حاتم كما تريدين, ولا يفكر أبدا فى إجبارها.
أيها السادة, ما زالت المحاكم السورية الرسمية ترفض تزويج امرأة ولو كان عمرها خمسين عاما دون موافقة ولى الأمر, وما زالت القوانين السارية تفرض موافقة ولى الأمر, الزوج أو الأخ أو الابن فى سفر المرأة حتى إلى الحج!! .. والرائع أبو حاتم وخلفه كاتب ومخرج, يعتقدون أن الأب فى العام 1930 وفى حارة ضيقة معزولة متخلفة لا تعرف من الدنيا سوى عكيد ومخفر, ولم تسمع يوما براديو, ولا بجريدة ولا بأخبار, حارة ترى فى سبع بنادق فتحا عظيما, يخرج من أجله العكيد إلى حلب ثم إلى فلسطين... فى هذه الحارة رعاكم الله, يأخذ أبو حاتم رأى ابنته فى زواجها من العكيد (أى رأس الحارة), ويحترم رفضها ولا يجبرها... أما فى العام 2008 فسوف تجد أستاذة فى الجامعة, خريجة دكتوراه, تجبر على الزواج, أو تجد طالبة جامعية تُقتًل لأنها تزوجت من دون موافقة أهلها, ويقولون العمل يسيء للمرأة؟! ويضطهدها!! (خافوا الله يا جماعة الخير... ولا تظلموا الجماعة), العمل بكل تأكيد لا يسئ إلى المرأة, فالأب يدارى بناته, وأبو عصام لا يأخذ قرارا من دون رأى سعاد, والعكيد أمام زوجته كالطفل الوديع, فأين الاضطهاد ولم نر رجلا يضرب زوجته بدون سبب ولمجرد الإحساس برجولته مثلا, وهو ما يحدث فى أيامنا هذه.
الواقع أن العمل لا يسيء إلى المرأة, بل يسيء بكل تأكيد إلى الرجل... يسيء إلى الدمشقيين أنفسهم وإلى البيئة الدمشقية التى لم تكن كذلك, ورجالها ما كانوا كذلك, وتاريخها فى العام 1930 لم يكن كذلك. فما كان الرجال آنذاك مشغولين بالصغائر من قبيل مؤامرات "فريال" وشجارات "أبو النار", وما كان يمكن لدمشقى أو أى شخص مهما كان, يُقتل ابنه بيد المحتل الفرنسى فيصبح شغله الشاغل الانتقام من الواقعين تحت الاحتلال! .. الحارات لم تكن كذلك, ولم تكن هناك عصبيات بغيضة بين الحارات, وإلا ما انطفأ حريق الأموى وحريق سوق الطويل, ولما استطاعت هذه البلاد أن تستمر بالعيش, دمشق لم تكن آنذاك هكذا, ولم تكن فى أى وقت من الأوقات كذلك, فلماذا تنفق الملايين لإنتاج عمل يصورها بغير صورتها؟!
فى الجانب الآخر
فى الجانب الفني, يبدو أن بسام الملا بدأ تصوير الجزء الثالث تحت هاجس جنازة أبو عصام التى أطلقها فى الحلقة الأولى, مفكرا بالجنازة التالية, ومتوهما أن النجاح سيستمر إلى الجزء الثالث والستين, لذلك جاءت الشخصيات متشابهة وكلها بلا لون, أبو حاتم عكيد لا يقل شأنا عن العكيد, ومعتز أيضا, والرجال كلهم متساوون فى الفعل ورد الفعل, ولا بأس أن يتطاول أولاد الأخت على خالهم, باللفظ أو الموقف, بحضوره أو فى غيابه, والكل متشابه فى الأداء المتشنج الموتور المبالغ فيه... الكل عكيد, فمن يدرى من يموت فى الجزء التالي, حتى عصام الذى يصوره العمل (دلدول) وضعيفا, لا يتحدث إلا (ع العريض). وحتى سعاد مثل العكيد (شكلين ما بتحكي)... أما أبو غالب الذى أنقذ الجزء الثانى بحضوره عبر محطات قصيرة سريعة, بات حاضرا حتى خرج من أنوفنا, بسبب وبدون سبب, محشورا بين المشهد والمشهد, مرة يصرخ على البليلة التى يطير من يأكلها, بين مشهدين لا علاقة له بهما على الإطلاق, ومرة جاء ليستحم فى الحمام من دون أى مبرر إلا أن نعرف أنه يستحم أكثر من زعماء الحارة, ومرة جاء ليرمى تحية الصباح على أبو مرزوق وليقول لنا أبو مرزوق إنه (غليظ)...!! يا جماعة نحن نعلم أنه غليظ منذ الجزء الأول, فلماذا التكرار؟ هذا ناهيك بأن حاله اصطلح نهاية الجزء الثاني, لكن يبدو أنهم اضطروا لتفعيل غلاظته ثانية, للافتقار إلى عنصر تحريك درامى بديل.
المشكلة فى «باب الحارة» أنه يستفز الكلام, فما من مشهد إلا ويحتمل مقالا, حتى المشهد المسمى "ماستر" والذى يهزك فعلا, لا بد ستجد فيه ما يعيبه, ومن ذلك مشهد ولادة الخرساء ونطقها, والمشهد موجود فى (بروموشن) العمل نظرا لأهميته, وهو فعلا جميل, لكن كيف نطقت الصماء؟ الخرساء يمكن أن تنطق, لكن العلم يؤكد أن الأصم لا يمكن أن ينطق إلا بمقاطع صوتية بلا معنى لأنه لم يتعلم الكلام, والخرساء كما شاهدناها فى الجزء الثانى صماء، وكان زوجها يعانى الأمرين حين ينسى مفتاح البيت ويقرع ثم يقرع ولا تسمعه زوجته .. أم أن المخرج يراهن على نسياننا للجزء الفائت؟
"أهل الراية"
منذ حلقاته الأولى استطاع "أهل الراية" تحقيق حضور طيب لدى الجمهور مع تراجع واضح لـ"باب الحارة", خصوصا وأن نص "أهل الراية" أكثر اقترابا من موضوعيته, وأكثر قدرة على بناء شخصياته ونماذجه دراميا, ورغم أنه وقع فى بعض مطبات هذا النوع من الأعمال لكنه استطاع تقديم حدوتة لطيفة يمكن أن تتابع, وفق بناء درامى جيد, وأحداث مرتبطة بأسبابها ونتائجها, ومحبوكة بشكل أكثر احترافا, (رغم لا منطقية اتهام قطر الندى بشرفها) وجاءت شخصياته قوية مرسومة بشكل صحيح, يمكن أن نقول إنها من لحم ودم رغم إيجابيتها الشديدة أحيانا, ومقنعة فى الغالب, كما جاء أداء جمال سليمان على عادته محترفا جميلا وساحرا فى بعض المشاهد, وأيضا تألق قصى خولى والموهوبة تاج حيدر, وأجادت كاريس بشار، ولو أنها استندت قليلا إلى شخصياتها فى أعمال أخرى مشابهة, وحتى على مستوى الأزياء التى صممها أمين السيد, حقق "أهل الراية" خطوة إلى الأمام على هذا الصعيد, عبر عناية محترفة بالأزياء التى جاءت أكثر توثيقا وأبعد عن السياحية التى وسمت الأعمال الأخرى.
وفى العموم, يمكن وصف العمل بالجيد جدا, ولعل المخرج القدير علاء الدين كوكش لم يتخلف هنا عن تاريخه الطويل الذى نصبه شيخا للمخرجين السوريين, فقد قدم عملا ممتعا, لابد أنه سيحقق نجاحا كبيرا فى عرضه الثانى خارج الموسم الرمضاني, فـ"أهل الراية" لم يستقطب الناس منذ البداية, لا لنقص فيه, بل لانجذاب الناس إلى "باب الحارة" واتجاههم إليه.
فى "بيت جدي" أداء جيد للفنان بسام كوسا, وربما نستطيع أن نضع نقطة وننتقل إلى السطر التالي, ففى العمل مجموعة من العثرات لا تقل عن مثيلاتها فى «باب الحارة», مع إضافة أن البيئة هنا مجرد خلفية أو فولكلور من دون أى ضرورة درامية, وكان يمكن للعمل أن يكون فى أى قالب آخر دون تغير يذكر, وعلى عكس الأعمال الأخرى لم يتم الإفادة من البيئة التى اختارها قالبا لأحداثه, ناهيك بأن الأحداث ذاتها تبدو مستندة إلى أعمال أخرى سبق عرضها. وفى أعمال البيئة أيضا, هناك عمل اعتمد البيئة الساحلية وآخر اعتمد البيئة الحلبية, وسيكون لنا معهما وقفات مقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة