بعد روايته الأولى "سوناتا لتشرين" أصدر الكاتب أسامة أنور عكاشة ضمن روايات الهلال روايته الثانية "جنة مجنون"فى أبريل 2007، وفى السطور التالية قراءة فى الرواية.
حلم الفجر
تبدأ رواية "جنة مجنون" بوصول سلة زهور ورسالة قصيرة إلى الراوى - مجهول الاسم - من صديق الطفولة "عاطف درويش"، "كيف يمكن للإنسان أن ينسى الطفل الأول؟ ذلك الذى عذبه وأرقه وأشقاه؟"، وقد كان صديقه قد حرم - مثله- من حنان الأمومة وفجع برحيل الأم فى سنواته الأولى، وربما هنا يكتب أسامة أنور عكاشة عن ذلك الطفل يتيم الأم الذى كان، فكان وصفه صادقاً لمعاناته النفسية، ونظرات الآخرين إلى هذا الطفل الذى "لا يأنس للأغراب ولا يستسلم لملاطفات الأقارب".
فى حجرة المخزن المخصص للأشياء المستغنى عنها، والتى ستصير عالمه الخاص، سيجد أشياء أبعـِدت عن الأنظار حتى لا تثير ذكريات ولا تجدد أحزاناً وألعاباً قديمة وكتباً ومجلات.
عاطف رحلت أمه بعد طلاقها، وعاش مع جدته.. وصارت حجرة المخزن عالما موازيا "تتكون مفرداته من الأحلام ومن تمنيات لا يحققها الواقع" (ص8)، ويبدآن فى تشخيص وارتجال أية شخصية علقت بالخيال كنوع من التعويض عن الإحساس بالنقص، أو ما يعرف بالإعلاء والتصعيد .
وليس من التعسف أن نقحم بعض المفردات الفرويدية، لأن "جنة مجنون" رواية سرد نفسى بامتياز، رواية سرد البوح والاعتراف، لكن لغتها تجنح إلى الشعر، وتحس أن فى أعماق الأستاذ أسامة أنور عكاشة شاعراً مجهضاً، وهذا ما يسميه النقاد بـ"شاعرية السرد"، كما يتجلى بوضوح حين وصف الكاتب اختفاء عاطف المفاجئ بسبب موت جدته، وانتقاله إلى بورسعيد ليكفله أبوه: "انقطع ذلك الخيط الحريرى الذى جمع بين اليتيمين وانفصمت عرى صداقة صنعتها الأحزان المتساندة فى بكور الفجر".
فصول قصصية
ستبدأ رحلة أخرى، ورغم أنى اطلعت على الرواية فى صيف السنة الماضية، وجدتنى أعيد قراءتها بنفس دهشة القراءة البكر، ويخيل إلى قارئها أن كل فصل (قصة قصيرة) مستقلة بذاتها، لكن الفصول/ القصص مترابطة، وتـُقرأ دفعة واحدة، وهنا تتجلى براعة أسامة أنور عكاشة، مثلما فى أعماله الدرامية، الذى يعرف كيف يشدّ المتتبع لأعماله من تلابيبه حتى آخر رمق.
ويختتم أسامة أنور عكاشة روايته بالفصل الثالث عشر، الطريف فى الأمر أن الكثيرين يتشاءمون من الرقم 13 حتى أن الكاتب إحسان عبد القدوس كان كلما بلغ هذا الرقم، دعا أحد الحاضرين ليكتبه بدلاً عنه.
فى الطائرة يغفو الراوى بعد احتساء جرعتين من الشراب الذى قدم إليه، ولم يستيقظ فى مقعد الطائرة ولا فى السيارة التى أقلته، إلا فى غرفة فى "نزل فخر الدين الكبير"فى ضيافة ضيعة عاطف بك درويش، فى ضيافة النسخة اللبنانية من صديق الطفولة، وتبدل شخصيات الرواية.
"الجنون كلمة يا صديقى .. كلمة لا أكثر .. تنطقها فتدمر عالمك بأكمله!". (ص104)، وعلم منه أن سبب مجيئه هو جنونه القديم بروايتين شغفا بهـما معا فى بكورة الصبا: "نداء المجهول" لمحمود تيمور، و"غادة حامانا" لطاهر لاشين.. تبادلا حواراً صامتاً، ووجد نفسه فى طائرة تقله لوحده، وأتته المضيفة بأوراق ليوقع عليه، وذهل الراوى عند رؤية اسم عاطف درويش تحت صورته، كيف فعلها ؟ كيف طمس اسمه الحقيقى من ذاكرته وأوراقه الرسمية حتى صار رجلا بلا اسم ولا هوية ولا وطن.
ثمة قراءة مفادها بأن عاطف لم يكن سوى الراوى، ربما لأن الكاتب لم يحدد اسم الراوى طوال فصول هذه الرواية المرآوية والتى رغم قصرها يصعب اختزال تفاصيلها الصغرى، وتلخيص أحداثها.. ولو تبنينا هذا الطرح، فسننسف الرواية بأكملها، ونحولها إلى مجرد حكاية من حكايات ما قبل النوم.. لاسيما وأن الإبداع الحقيقى ضد القراءة الأحادية.
تنتهى الرواية بمشهد إصرار البطل على إثبات ذاته وإعلان الحقيقة وهو يضرب بآنية معدنية قضبان العنبر، ويصم آذانهم حتى يسمعوا، نهاية عبقرية لا يكتبها كاتب إلا الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، تذكرنا بنفس المصير المأساوى لبطل رائعته التلفزيونية "أبو العلا البشرى" الذى آمن بفكرة الفروسية النبيلة فى زمن التشيؤ والاستلاب والاندحار الحضارى الشامل.