الشعر فى دمياط تيار متواصل
بقلم سمير الفيل
لم يكن من المستغرب أن يزدهر الشعر فى دمياط، وبخاصة بعد حركة البعث والإحياء التى قادها محمود سامى البارودى فى مصر، ويبدو أن وجهة نظر الشاعر الكبير طاهر أبوفاشا كانت صحيحة حين ربط ازدهار الحركة الشعرية الحديثة بوجود "المدرسة المتبولية"، وهى مدرسة دينية ساهمت فى نشر العلم واحتضان الشعراء. يقول أبوفاشا: "ولقد أدركنا نحن العهد الذى كان الأدب فيه هو الشعر فقط قبل أن تظهر فنون القول الأخرى".
"وكان فى دمياط مشيخة من الشعراء المجيدين على رأسهم شاعر دمياط على العزبى طيب الله ثراه. فقد كان شاعراً محفلياً جهيراً تألق نجمه فى سماء دمياط، والتف حوله المعجبون والتلاميذ وكأنهم فى مجلس شراب يدور عليهم بكئوس مترعة من شعره الذى يرفعه بجودة إلقائه درجات". وقد اقتطعنا هذه الفقرة من كتاب مهم صدر عن مديرية الثقافة سنة 1987، وتضمن التأريخ لعدد كبير من الشعراء كلهم كتبوا بالفصحى باستثناء شاعر "كفر البطيخ" عبدالقادر السالوس فقد كان يكتب الزجل (توفى) والشعراء هم : الشيخ سليمان عياد، حسن الدرس، على على العزبى، على الغاياتى، محمد البدرى محمدين، عبدالله بكرى، محمد مصطفى الماحى، فهيم القللى، محمد طاهر الجبلاوى، محمد الأسمر، محمود عبدالحى، محمد مصطفى حمام، حسن كامل الصيرفى، على على الفلال، طاهر محمد أبوفاشا، عبدالقادر أحمد السالوس، عبدالعليم عيسى، السيد مسعد الأطروش، فاروق شوشة.
وفى تقديرنا أن هؤلاء الشعراء المجيدين تركوا خلفهم تراثاً شعرياً متميزاً وفائق الجودة، خاصة أن بعضهم كان يعمل بالحرف اليدوية أو التجارة أو التعليم، ويمكننا أن نفرق بين شعراء فضلوا أن يرتبطوا بالعاصمة وهذا حقهم، وبين شعراء آخرين رأوا أن يظلوا بمدنهم وقراهم، وهؤلاء هم الذين سنقدم نماذج من أعمالهم فى هذا الملف.
يأتى على رأس الشعراء المجددين أنيس أحمد البياع (من مواليد كفر البطيخ 1939) وقد قاد حركة التجديد بالانتصار لقصيدة التفعيلة بعد رجوعه من دراسته فى معهد الخدمة الاجتماعية بالقاهرة وزمالته لمثقفين منهم الناقد الدكتور صبرى حافظ والصحفى صلاح عيسى وبعض أقطاب اليسار المصرى (تقريباً سنة 1959)، وكان أن بذر فى التربة المحلية شتلات من قصائده الجديدة فلقى تجاوباً من مبدعين كانوا يتنسمون رياحاً جديدة، وقد عضد تلك التجربة شاعر آخر هو السيد النماس (مواليد مدينة دمياط سنة 1946) فقدم الاثنان قصائد تنضح بجماليات مغايرة لها نزوعها الاشتراكى، والغريب أن الشاعر البياع لم يصدر ديواناً حتى الآن فيما أصدر النماس ديوانه الوحيد "الصوت والرماد" متأخراً (بالتحديد فى ديسمبر 2001).
ويتقدم المشهد الذى يحمل عصا الريادة فيه شاعران آخران تميزا بالإنتاج الغزير والإسهام بحيوية فى ندوات ومؤتمرات أدبية عديدة، وهما الشاعر مصطفى عز الدين العايدى الذى أصدر خمسة دواوين أولها "أصداء من رياح العشق"1985 وآخرها "قوس الرياحين" 2006. الشاعر الثانى هو الطبيب د. يد صالح، وقد أصدر أربعة دواوين أولها "قلبى وأشواق الحصار" 1990 وآخرها "أنشودة الزان" فبراير 2002، وأعرف أن للشاعرين مخطوطات دواوين عدة يعانون من إيجاد وسيلة للخروج بها إلى النور.
من المهم أن نلقى نظرة عجلى على إنتاج هؤلاء الرواد فنجد النمّاس يتعامل مع التراث بفهم عميق، وتنهض القصيدة لديه على مدارات القلق والتأمل والتمرد، فنصوصه محكمة البناء حيث يمتلك رؤية ناصعة، ويشتبك مع قضايا عصره بحميمية وروح وثابة، فيما نجد البياع يشكل جماليات نصوصه عبر قراءة مدققة للتاريخ المصرى ليشحن أعماله بإيقاع حزين لا يخلو من الثورة.
لكن العايدى يأتى بنص مغاير يحتفى فيه بالروح العربية بكل قيمها وينشد إنشاد المقهورين فى لحظات المكابدة الصوفية كما يحتفى بفكرة البطولة، وأرى عيد صالح يغنى للحياة وضجيجها، وعنفوان تياراتها وتنطوى قصائده على إحساس عارم بتجدد تلك الحياة، وهو يحاول كشف ما وراء السطح الموار بالأحداث.
ومن نفس الجيل سنتوقف أمام صوت الطبيب د.حسام أبوصير الذى لم يصدر ديواناً فى حياته، وقد أصدرت له مديرية الثقافة ديواناً صغيراً هو "قصيدة ساذجة" توفى 1969، وصدر له فى نفس السنة ديوان يضم بعض أعماله وهو نفس ما حدث لشاعر كلاسيكى، أعتبره من أهم الأصوات الشعرية التى ظلت محافظة على عمود الشعر وقد اكتفى بإلقاء شعره فى المحافل المنبرية، وأقصد شاعر كفرالبطيخ ـ أيضا ـ القطب خيرات السالوس، شقيق القاص المعروف عبدالله خيرت (صدر له ديوان صغير عن رابطة التعليم الابتدائى فور رحيله فى أبريل 2004، والديوان بعنوان "موت بحار".
من نفس الجيل، سنيا على الأقل، نجد عثمان خليل من مدينة فارسكور، وقد صدر له ديوان "ذوب البنفسج" 1999 وتوفى سنة 2005، ويمكن أن ندرج ضمن هذا الجيل محمد سالم مشتى وهو شاعر بدوى يحتفى باللغة ويشكل منها نصاً شديد الغموض لكنه يقدم كشوفات جمالية خاصة على هامش بحثه عن مشروع ما، كما فى ديوانيه "تنويع على فعل" 1995، و"إحالات مطهمة بدمى البدوى" 2001، وهناك شعراء كبار ذهبوا واستقروا بالقاهرة، وتربطهم صلة قوية بمسقط الرأس منهم أستاذنا الشاعر الكبير فاروق شوشة أمد الله فى عمره، ومنهم الراحل عبدالعليم عيسى (من كفر المياسرة)، أما من بقى فأغلبهم لم يطبع أعماله مثل الراحل سعدالدين عبدالرازق وكان من أوائل مديرى الثقافة بدمياط، والراحل محمد مجاهد المدنى، وقد وصل إلى يدى ديوان لحامد الجوجرى لكنه جاء فى طباعة غير مرضية، وكذلك تقدم آمال الحطاب "شمس تأبى الغروب" 1996 على نفقتها، وينشر محمد إبراهيم أبوسعدة "أشعار الطفولة" 1999 وهى نماذج تعليمية أقرب إلى النظم (توفى، وكان مهتما بالشعر الموجه للأطفال)، ومن نفس الجيل من يكتب فى صمت بعيداً عن الناس مثل عبدالحميد أبوزهرة.
جيل الوسط يمثله عدد من الشعراء منه من توقف ومنه من واصل طريقه الشاق فى التعامل مع الكلمة، فهناك فكرى العتر الذى أصدر ديواناً صغيراً فى بدايته هو "صدرى تسكنه غابة" ( فبراير 1982) وقد توقف وحصل على الدكتوراه فى علم النفس، وعزة بدر التى شكلت صوتاً متفرداً للصوت الذى يحمل قضايا المرأة بهمس ورقة متناهية كما نجد فى ديوانها الأول "ألف متكأ وبحر" (1989) وتحصل على الدكتوراه هى الأخرى فى مجال الإعلام ويزداد نشاطها الشعرى والسردى. هذا الجيل منه أيضا الشاعر أحمد الشهاوى الذى عمل صحفياً بالقاهرة وهو من نفس قرية عبدالعليم عيسى "كفر المياسرة"، وأغلب دواوينه تشتبك مع التراث برؤية مغايرة وجسورة. وفى رأيى أن الشاعر الصيدلانى هانى أبازين الذى لم يصدر ديواناً واحداً قد قدم مسرحية شعرية ممتازة فعلا، وأخرجت فى القاهرة وهى مسرحية تستجيب لكل شروط العرض المسرحى المبهر فموهبته الشعرية لم تغفل ضرورات الدراما. المسرحية هى "ليلة فى قصر الرشيد" ديسمبر 2001، لكنه لم يكرر التجربة لأسباب معيشية كما نعتقد.
عن الجيل الثالث فحدث ولا حرج، فهو جيل يحتل الساحة الآن، وهو فى قمة عطائه، ولديه فى الغالب مشروعه الذى ينفتح على حقول دلالية ومعرفية ثرية حقا نبدأ بأحمد بلبولة، وفى شعره عذوبة ورونق مع الاحتفاظ بالموسيقى الصادحة التى تغزو الوجدان، وله عندى ديوان "هبل" 2004. سامح الحسينى عمر فى ديوانيه "انفجار الروح" 1999، و"سيرة الزينبى" 2003، وهو شاعر يسمو بالقصيدة إلى مناطق علوية لا بالمعنى الحرفى، بل بالإحساس الدفين بمقدرة النص على اكتشاف عوالم الكون وتحولات الذات، وعناصره الجمالية طازجة وذات مذاق جديد، تنفلت من كل تحديد قديم. للشاعرة عفت بركات، وهى من مدينة عزبة البرج المواجهة تماما لرأس البر تواجد قوى ومؤثر خاصة وأنها أصدرت ثلاثة دواوين على التوالى هى "نقش له فى ذاكرتى" 1988 "صباحات لمن قاسمنى دفئه" أبريل 2003، وأخيراً "تفاصيل العبث"، وهى طاقة شعرية واعدة ومن الجميل أنها تمارس التمثيل والإخراج المسرحى بنفس الكفاءة.
أما سيف على بدوى فله كراسات شعرية تميل إلى التجريب، نشر منها ديوان "ساعة العناق" 1999، ويؤسس الشاعر لنص يصنع قطيعة تامة مع الرومانسية، ولا يقع فى الغرائبية ونشعر فى قصائده بشذرات من المأساة، وبتهشيرت جيولوجية لأحقاب من الأزمات المتعاقبة التى تمر على البشر.أشرف الخضرى شاعر رومانسى يستبطن تجربة الوجود من خلال الأنثى ولأعماله سحر خاص كما فى ديوانه الوحيد "أحبك صامتا كالورد" 2001. محمد توفيق العزونى يباغتنا بتلك النزعة العدمية التى تؤطر تجربته وتمنحها أبعاداً فلسفية لا شطآن لها، وله ديوان "هدير البحر فى ليالى شهر زاد" يناير 2003. سامى الغباشى يقدم عدة دواوين شعرية قبل أن يستقر بالقاهرة منها ديوانه "فوق ذاكرة الرصيف" 1992، والذى يهديه إلى أراجون، ومن فارسكور نقرأ لممدوح كيرة "رائحة الحزن" 2000، ولأحمد عفيفى "وحين تصحو الفراشات".
ومن كفر البطيخ يقدم أيمن عفيفى"سقط الملك" 2000، وضاحى عبدالسلام "هارمونى" يونيو 1998، وهو شاعر مختلف شديد الموهبة ونفضل أن نتحدث عنه حين نتناول شعر العامية التى اتجه إليها فور صدور الديوان، وتحت أيدينا دواوين أخرى منها "أغنية للرحيل" لعبدالناصر أبوالنور من فارسكور، يونيو 2003، كما نجد ديوان محمود العباسى "دقات قلبى يا وطن" 1999وهناك أسماء لم تصدر دواوين منها سامح النجار وصلاح الزينى. ولابد من التنويه فى هذه المساحة إلى أن مشروع النشر الإقليمى وبعض المطبوعات التى صدرت على نفقة الشعراء قد سمحت بظهور دواوين تعانى من الركاكة والضعف والهزال الفنى.
ونذكر أيضا تجمعاً شعرياً فى مدينة كفرسعد يضم عدداً من الشعراء الواعدين يقود تيارهم الشعرى صلاح بدران، وقد جمعوا قصائدهم فى كتاب بعنوان "الحملة"، منهم مصطفى المحلاوى، محمد محيى الدين، أحمد فوزى، محمد سبيع، أحمد أبو النصر، محمود بدران (توفى). كما يمكننا أن نلمح شعراء جدداً لم تتبلور إمكانياتهم الفنية بعد مثل حاتم يحيى طه، طاهر عادل زين الدين، منصور عياد، محمد متولى بصل، محمد عبدالهادى بدر، شاكر صبرى السيد، رضا مرعى، وآخرين.
وفى السنتين الأخيرتين وجدنا شاعراً صغير السن لكنه يرهص بميلاد طاقة شعرية أصيلة وخصبة، حسب تقديرى، لو واصل الطريق بنفس الجموح والتجاوز، هو الشاعر الشاب محمد التونى، من "كفر البطيخ" التى خرج منها الشاعر الرائد أنيس البياع، وكأن قدر هذه المدينة الصغيرة القابعة على تخوم دمياط أن تخرج لنا شعراء موهوبين يحركون البوصلة الفنية نحو التجديد والتجريب على الدوام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يكن من المستغرب أن يزدهر الشعر فى دمياط، وبخاصة بعد حركة البعث والإحياء التى قادها محمود سامى البارودى فى مصر، ويبدو أن وجهة نظر الشاعر الكبير طاهر أبوفاشا كانت صحيحة حين ربط ازدهار الحركة الشعرية الحديثة بوجود "المدرسة المتبولية"، وهى مدرسة دينية ساهمت فى نشر العلم واحتضان الشعراء. يقول أبوفاشا: "ولقد أدركنا نحن العهد الذى كان الأدب فيه هو الشعر فقط قبل أن تظهر فنون القول الأخرى".
"وكان فى دمياط مشيخة من الشعراء المجيدين على رأسهم شاعر دمياط على العزبى طيب الله ثراه. فقد كان شاعراً محفلياً جهيراً تألق نجمه فى سماء دمياط، والتف حوله المعجبون والتلاميذ وكأنهم فى مجلس شراب يدور عليهم بكئوس مترعة من شعره الذى يرفعه بجودة إلقائه درجات". وقد اقتطعنا هذه الفقرة من كتاب مهم صدر عن مديرية الثقافة سنة 1987، وتضمن التأريخ لعدد كبير من الشعراء كلهم كتبوا بالفصحى باستثناء شاعر "كفر البطيخ" عبدالقادر السالوس فقد كان يكتب الزجل (توفى) والشعراء هم : الشيخ سليمان عياد، حسن الدرس، على على العزبى، على الغاياتى، محمد البدرى محمدين، عبدالله بكرى، محمد مصطفى الماحى، فهيم القللى، محمد طاهر الجبلاوى، محمد الأسمر، محمود عبدالحى، محمد مصطفى حمام، حسن كامل الصيرفى، على على الفلال، طاهر محمد أبوفاشا، عبدالقادر أحمد السالوس، عبدالعليم عيسى، السيد مسعد الأطروش، فاروق شوشة.
وفى تقديرنا أن هؤلاء الشعراء المجيدين تركوا خلفهم تراثاً شعرياً متميزاً وفائق الجودة، خاصة أن بعضهم كان يعمل بالحرف اليدوية أو التجارة أو التعليم، ويمكننا أن نفرق بين شعراء فضلوا أن يرتبطوا بالعاصمة وهذا حقهم، وبين شعراء آخرين رأوا أن يظلوا بمدنهم وقراهم، وهؤلاء هم الذين سنقدم نماذج من أعمالهم فى هذا الملف.
يأتى على رأس الشعراء المجددين أنيس أحمد البياع (من مواليد كفر البطيخ 1939) وقد قاد حركة التجديد بالانتصار لقصيدة التفعيلة بعد رجوعه من دراسته فى معهد الخدمة الاجتماعية بالقاهرة وزمالته لمثقفين منهم الناقد الدكتور صبرى حافظ والصحفى صلاح عيسى وبعض أقطاب اليسار المصرى (تقريباً سنة 1959)، وكان أن بذر فى التربة المحلية شتلات من قصائده الجديدة فلقى تجاوباً من مبدعين كانوا يتنسمون رياحاً جديدة، وقد عضد تلك التجربة شاعر آخر هو السيد النماس (مواليد مدينة دمياط سنة 1946) فقدم الاثنان قصائد تنضح بجماليات مغايرة لها نزوعها الاشتراكى، والغريب أن الشاعر البياع لم يصدر ديواناً حتى الآن فيما أصدر النماس ديوانه الوحيد "الصوت والرماد" متأخراً (بالتحديد فى ديسمبر 2001).
ويتقدم المشهد الذى يحمل عصا الريادة فيه شاعران آخران تميزا بالإنتاج الغزير والإسهام بحيوية فى ندوات ومؤتمرات أدبية عديدة، وهما الشاعر مصطفى عز الدين العايدى الذى أصدر خمسة دواوين أولها "أصداء من رياح العشق"1985 وآخرها "قوس الرياحين" 2006. الشاعر الثانى هو الطبيب د. يد صالح، وقد أصدر أربعة دواوين أولها "قلبى وأشواق الحصار" 1990 وآخرها "أنشودة الزان" فبراير 2002، وأعرف أن للشاعرين مخطوطات دواوين عدة يعانون من إيجاد وسيلة للخروج بها إلى النور.
من المهم أن نلقى نظرة عجلى على إنتاج هؤلاء الرواد فنجد النمّاس يتعامل مع التراث بفهم عميق، وتنهض القصيدة لديه على مدارات القلق والتأمل والتمرد، فنصوصه محكمة البناء حيث يمتلك رؤية ناصعة، ويشتبك مع قضايا عصره بحميمية وروح وثابة، فيما نجد البياع يشكل جماليات نصوصه عبر قراءة مدققة للتاريخ المصرى ليشحن أعماله بإيقاع حزين لا يخلو من الثورة.
لكن العايدى يأتى بنص مغاير يحتفى فيه بالروح العربية بكل قيمها وينشد إنشاد المقهورين فى لحظات المكابدة الصوفية كما يحتفى بفكرة البطولة، وأرى عيد صالح يغنى للحياة وضجيجها، وعنفوان تياراتها وتنطوى قصائده على إحساس عارم بتجدد تلك الحياة، وهو يحاول كشف ما وراء السطح الموار بالأحداث.
ومن نفس الجيل سنتوقف أمام صوت الطبيب د.حسام أبوصير الذى لم يصدر ديواناً فى حياته، وقد أصدرت له مديرية الثقافة ديواناً صغيراً هو "قصيدة ساذجة" توفى 1969، وصدر له فى نفس السنة ديوان يضم بعض أعماله وهو نفس ما حدث لشاعر كلاسيكى، أعتبره من أهم الأصوات الشعرية التى ظلت محافظة على عمود الشعر وقد اكتفى بإلقاء شعره فى المحافل المنبرية، وأقصد شاعر كفرالبطيخ ـ أيضا ـ القطب خيرات السالوس، شقيق القاص المعروف عبدالله خيرت (صدر له ديوان صغير عن رابطة التعليم الابتدائى فور رحيله فى أبريل 2004، والديوان بعنوان "موت بحار".
من نفس الجيل، سنيا على الأقل، نجد عثمان خليل من مدينة فارسكور، وقد صدر له ديوان "ذوب البنفسج" 1999 وتوفى سنة 2005، ويمكن أن ندرج ضمن هذا الجيل محمد سالم مشتى وهو شاعر بدوى يحتفى باللغة ويشكل منها نصاً شديد الغموض لكنه يقدم كشوفات جمالية خاصة على هامش بحثه عن مشروع ما، كما فى ديوانيه "تنويع على فعل" 1995، و"إحالات مطهمة بدمى البدوى" 2001، وهناك شعراء كبار ذهبوا واستقروا بالقاهرة، وتربطهم صلة قوية بمسقط الرأس منهم أستاذنا الشاعر الكبير فاروق شوشة أمد الله فى عمره، ومنهم الراحل عبدالعليم عيسى (من كفر المياسرة)، أما من بقى فأغلبهم لم يطبع أعماله مثل الراحل سعدالدين عبدالرازق وكان من أوائل مديرى الثقافة بدمياط، والراحل محمد مجاهد المدنى، وقد وصل إلى يدى ديوان لحامد الجوجرى لكنه جاء فى طباعة غير مرضية، وكذلك تقدم آمال الحطاب "شمس تأبى الغروب" 1996 على نفقتها، وينشر محمد إبراهيم أبوسعدة "أشعار الطفولة" 1999 وهى نماذج تعليمية أقرب إلى النظم (توفى، وكان مهتما بالشعر الموجه للأطفال)، ومن نفس الجيل من يكتب فى صمت بعيداً عن الناس مثل عبدالحميد أبوزهرة.
جيل الوسط يمثله عدد من الشعراء منه من توقف ومنه من واصل طريقه الشاق فى التعامل مع الكلمة، فهناك فكرى العتر الذى أصدر ديواناً صغيراً فى بدايته هو "صدرى تسكنه غابة" ( فبراير 1982) وقد توقف وحصل على الدكتوراه فى علم النفس، وعزة بدر التى شكلت صوتاً متفرداً للصوت الذى يحمل قضايا المرأة بهمس ورقة متناهية كما نجد فى ديوانها الأول "ألف متكأ وبحر" (1989) وتحصل على الدكتوراه هى الأخرى فى مجال الإعلام ويزداد نشاطها الشعرى والسردى. هذا الجيل منه أيضا الشاعر أحمد الشهاوى الذى عمل صحفياً بالقاهرة وهو من نفس قرية عبدالعليم عيسى "كفر المياسرة"، وأغلب دواوينه تشتبك مع التراث برؤية مغايرة وجسورة. وفى رأيى أن الشاعر الصيدلانى هانى أبازين الذى لم يصدر ديواناً واحداً قد قدم مسرحية شعرية ممتازة فعلا، وأخرجت فى القاهرة وهى مسرحية تستجيب لكل شروط العرض المسرحى المبهر فموهبته الشعرية لم تغفل ضرورات الدراما. المسرحية هى "ليلة فى قصر الرشيد" ديسمبر 2001، لكنه لم يكرر التجربة لأسباب معيشية كما نعتقد.
عن الجيل الثالث فحدث ولا حرج، فهو جيل يحتل الساحة الآن، وهو فى قمة عطائه، ولديه فى الغالب مشروعه الذى ينفتح على حقول دلالية ومعرفية ثرية حقا نبدأ بأحمد بلبولة، وفى شعره عذوبة ورونق مع الاحتفاظ بالموسيقى الصادحة التى تغزو الوجدان، وله عندى ديوان "هبل" 2004. سامح الحسينى عمر فى ديوانيه "انفجار الروح" 1999، و"سيرة الزينبى" 2003، وهو شاعر يسمو بالقصيدة إلى مناطق علوية لا بالمعنى الحرفى، بل بالإحساس الدفين بمقدرة النص على اكتشاف عوالم الكون وتحولات الذات، وعناصره الجمالية طازجة وذات مذاق جديد، تنفلت من كل تحديد قديم. للشاعرة عفت بركات، وهى من مدينة عزبة البرج المواجهة تماما لرأس البر تواجد قوى ومؤثر خاصة وأنها أصدرت ثلاثة دواوين على التوالى هى "نقش له فى ذاكرتى" 1988 "صباحات لمن قاسمنى دفئه" أبريل 2003، وأخيراً "تفاصيل العبث"، وهى طاقة شعرية واعدة ومن الجميل أنها تمارس التمثيل والإخراج المسرحى بنفس الكفاءة.
أما سيف على بدوى فله كراسات شعرية تميل إلى التجريب، نشر منها ديوان "ساعة العناق" 1999، ويؤسس الشاعر لنص يصنع قطيعة تامة مع الرومانسية، ولا يقع فى الغرائبية ونشعر فى قصائده بشذرات من المأساة، وبتهشيرت جيولوجية لأحقاب من الأزمات المتعاقبة التى تمر على البشر.أشرف الخضرى شاعر رومانسى يستبطن تجربة الوجود من خلال الأنثى ولأعماله سحر خاص كما فى ديوانه الوحيد "أحبك صامتا كالورد" 2001. محمد توفيق العزونى يباغتنا بتلك النزعة العدمية التى تؤطر تجربته وتمنحها أبعاداً فلسفية لا شطآن لها، وله ديوان "هدير البحر فى ليالى شهر زاد" يناير 2003. سامى الغباشى يقدم عدة دواوين شعرية قبل أن يستقر بالقاهرة منها ديوانه "فوق ذاكرة الرصيف" 1992، والذى يهديه إلى أراجون، ومن فارسكور نقرأ لممدوح كيرة "رائحة الحزن" 2000، ولأحمد عفيفى "وحين تصحو الفراشات".
ومن كفر البطيخ يقدم أيمن عفيفى"سقط الملك" 2000، وضاحى عبدالسلام "هارمونى" يونيو 1998، وهو شاعر مختلف شديد الموهبة ونفضل أن نتحدث عنه حين نتناول شعر العامية التى اتجه إليها فور صدور الديوان، وتحت أيدينا دواوين أخرى منها "أغنية للرحيل" لعبدالناصر أبوالنور من فارسكور، يونيو 2003، كما نجد ديوان محمود العباسى "دقات قلبى يا وطن" 1999وهناك أسماء لم تصدر دواوين منها سامح النجار وصلاح الزينى. ولابد من التنويه فى هذه المساحة إلى أن مشروع النشر الإقليمى وبعض المطبوعات التى صدرت على نفقة الشعراء قد سمحت بظهور دواوين تعانى من الركاكة والضعف والهزال الفنى.
ونذكر أيضا تجمعاً شعرياً فى مدينة كفرسعد يضم عدداً من الشعراء الواعدين يقود تيارهم الشعرى صلاح بدران، وقد جمعوا قصائدهم فى كتاب بعنوان "الحملة"، منهم مصطفى المحلاوى، محمد محيى الدين، أحمد فوزى، محمد سبيع، أحمد أبو النصر، محمود بدران (توفى). كما يمكننا أن نلمح شعراء جدداً لم تتبلور إمكانياتهم الفنية بعد مثل حاتم يحيى طه، طاهر عادل زين الدين، منصور عياد، محمد متولى بصل، محمد عبدالهادى بدر، شاكر صبرى السيد، رضا مرعى، وآخرين.
وفى السنتين الأخيرتين وجدنا شاعراً صغير السن لكنه يرهص بميلاد طاقة شعرية أصيلة وخصبة، حسب تقديرى، لو واصل الطريق بنفس الجموح والتجاوز، هو الشاعر الشاب محمد التونى، من "كفر البطيخ" التى خرج منها الشاعر الرائد أنيس البياع، وكأن قدر هذه المدينة الصغيرة القابعة على تخوم دمياط أن تخرج لنا شعراء موهوبين يحركون البوصلة الفنية نحو التجديد والتجريب على الدوام.
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة