رحلت نعمات البحيرى تاركة خلفها إرث أثرى المكتبة الأدبية
بقلم رشا عبد الله
شاءت المقادير أن أقوم بزيارة الكاتبة الراحلة نعمات البحيرى فى منزلها والإقامة معها لمدة أسبوع كامل، وتحديداً فى شتاء 1994، فى الشقة التى كانت تسكن فيها وقتذاك فى مدينة الشروق، الكائنة خلف النادى الأهلى بمدينة نصر. أما كيف تم ذلك؟.. فسأروى لكم الحكاية الآن.
كانت صديقة لوالدتى، لذا تعودت على رؤيتها بمنزلنا كثيراً، وفى كل مرة تأتى تملأ البيت بالبهجة والفرح، هكذا تعودنا عليها مفعمة بالحيوية، والابتسامة لا تفارقها. كنت أشعر بالسرور والسعادة فى كل مرة تأتى لزيارتنا، وكنت أكن لها شعوراً خاصاً يملأه الاحترام والفخر بأن تكون صديقة أمى كاتبة مشهورة وتظهر صورتها بالجرائد.
توطدت علاقتها بمنزلنا بعد هروبها من العراق أثناء حرب الخليج فى بداية التسعينيات، وكانت تتسم بالإصرار الشديد والرغبة الجارفة فى الحياة، فبرغم الرعب والقهر الذى تعرضت له، إلا أنها قررت أن تستفيد من هذه التجربة لتكون مادة ثرية لكتاباتها، فعملت بجد واجتهاد حتى استطاعت أن تفرض وتؤكد نفسها على الساحة الثقافية ككتابة لها أسلوبها الخاص والمميز.
كنت فى هذه الفترة مهووسة بالأدب، فكتبت العديد من القصائد الشعرية والمذكرات والأحلام، وكانت أمى توبخنى دائماً وتتهمنى بالإهمال فى الدراسة وضياع الوقت فى أشياء فارغة، فجاءت أبلة نعمة - كما كنا نناديها- لتشجعنى وتقرأ ما أكتبه، وتوجهنى باهتمام وبحنان بالغ.
أعجبت بروايتها الأولى "أشجار قليلة عند المنحنى"، التى كتبتها فى بداية الثمانينيات، ثم قرأت مجموعاتها القصصية التى قامت بكتابتها بعد ذلك مثل، نصف امرأة 1984، والعاشقون 1986، نساء الصمت والنار الطيبة1988، وقررت القيام بعمل دراسة بسيطة عن هذه المجموعات القصصية ومناقشتها فيها.
وبالفعل وفى إجازة نصف العام لهذه السنة، تلقيت دعوة منها للإقامة معها لعدة أيام، لا استطيع وصف السعادة التى شعرت بها عندما وافق أبى رحمه الله على هذه الدعوة.
وبالرغم من صغر مساحة الشقة، إلا أنه منذ دخولك من باب المنزل، وأنت تشعر بأنك فى مكان له عبق وسحر خاص، بساطة الأثاث ورقته، التحف الخشبية الجميلة واللوحات الفنية الرائعة المعلقة على الجدار، حتى عند دخولك إلى المطبخ تشعر بأن هناك خصوصية لهذا المكان.
انتهزت فرصة إقامتى معها، وتناقشنا كثيرا فى أحوال الأدب والصحافة، وقد أعجبت بآرائى، فمنحتنى شرف قراءة مجموعاتها القصصية، ارتحالات اللولؤ قبل خروجها للنور، وإبداء تعليقى عليها. لاحظت أنها مفتونة بأغنيات عبد الوهاب وفايزه أحمد، وتعيد تشغيلها باستمرار، كما لاحظت اهتمامها بروايات ماركيز، وكانت لها أجندة خاصة تسجل فيها بعض العبارات التى تراها لافتة أو تخطر على بالها، كما كانت تعشق التزين بالحلى الفضية، ولا تبخل بدفع مبالغ كبيرة لاقتنائها، فترتدى الأقراط والعقود والخواتم ذات التصميمات البديعة والمتفردة.
استمرت علاقتى بها لسنوات عدة حتى باعد بيننا زواجى والسفر، ثم واظبت على الاتصال تلفونياً من آن إلى آخر حتى هزمتنا مشاغل الحياة، فانقطعت الاتصالات، إلا أنى كنت أتابع أخبارها من حين لآخر فى الجرائد.
فشعرت بالحزن الشديد عندما هاجمها المرض اللعين قبل خمس سنوات، وتابعت المعارك التى خاضتها بإصرار حتى استطاعت أن تنال حقها فى الذهاب إلى فرنسا والعلاج على نفقة الدولة.
شعرت بالفرح الشديد حين علمت بفوزها 2007 بجائزة الدولة للتفوق عن روايتها يوميات امراة مشعة.
اتصلت بها مرة واحدة فى شهر يوليو الماضى، وبرغم التعب الواضح بشدة فى صوتها، إلا أنها لم تكن يائسة، بل تستشرف المستقبل بقلب يملؤه الأمل وعناد يقاوم المرض. وكان من المفترض أن أذهب لزيارتها، ولكن ظروف الحياة والسفر حال دون اتمام هذه الزيارة، وعندما قرأت الخبر قبل أيام فى الجريدة، أصابتنى ارتجافة حزن موجعة، وانتابنى إحساس قوى بالذنب لعدم زيارتها، فقررت الكتابة لأعبر عن اعتذارى وأقول لها: وداعا أبلة نعمة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
شاءت المقادير أن أقوم بزيارة الكاتبة الراحلة نعمات البحيرى فى منزلها والإقامة معها لمدة أسبوع كامل، وتحديداً فى شتاء 1994، فى الشقة التى كانت تسكن فيها وقتذاك فى مدينة الشروق، الكائنة خلف النادى الأهلى بمدينة نصر. أما كيف تم ذلك؟.. فسأروى لكم الحكاية الآن.
كانت صديقة لوالدتى، لذا تعودت على رؤيتها بمنزلنا كثيراً، وفى كل مرة تأتى تملأ البيت بالبهجة والفرح، هكذا تعودنا عليها مفعمة بالحيوية، والابتسامة لا تفارقها. كنت أشعر بالسرور والسعادة فى كل مرة تأتى لزيارتنا، وكنت أكن لها شعوراً خاصاً يملأه الاحترام والفخر بأن تكون صديقة أمى كاتبة مشهورة وتظهر صورتها بالجرائد.
توطدت علاقتها بمنزلنا بعد هروبها من العراق أثناء حرب الخليج فى بداية التسعينيات، وكانت تتسم بالإصرار الشديد والرغبة الجارفة فى الحياة، فبرغم الرعب والقهر الذى تعرضت له، إلا أنها قررت أن تستفيد من هذه التجربة لتكون مادة ثرية لكتاباتها، فعملت بجد واجتهاد حتى استطاعت أن تفرض وتؤكد نفسها على الساحة الثقافية ككتابة لها أسلوبها الخاص والمميز.
كنت فى هذه الفترة مهووسة بالأدب، فكتبت العديد من القصائد الشعرية والمذكرات والأحلام، وكانت أمى توبخنى دائماً وتتهمنى بالإهمال فى الدراسة وضياع الوقت فى أشياء فارغة، فجاءت أبلة نعمة - كما كنا نناديها- لتشجعنى وتقرأ ما أكتبه، وتوجهنى باهتمام وبحنان بالغ.
أعجبت بروايتها الأولى "أشجار قليلة عند المنحنى"، التى كتبتها فى بداية الثمانينيات، ثم قرأت مجموعاتها القصصية التى قامت بكتابتها بعد ذلك مثل، نصف امرأة 1984، والعاشقون 1986، نساء الصمت والنار الطيبة1988، وقررت القيام بعمل دراسة بسيطة عن هذه المجموعات القصصية ومناقشتها فيها.
وبالفعل وفى إجازة نصف العام لهذه السنة، تلقيت دعوة منها للإقامة معها لعدة أيام، لا استطيع وصف السعادة التى شعرت بها عندما وافق أبى رحمه الله على هذه الدعوة.
وبالرغم من صغر مساحة الشقة، إلا أنه منذ دخولك من باب المنزل، وأنت تشعر بأنك فى مكان له عبق وسحر خاص، بساطة الأثاث ورقته، التحف الخشبية الجميلة واللوحات الفنية الرائعة المعلقة على الجدار، حتى عند دخولك إلى المطبخ تشعر بأن هناك خصوصية لهذا المكان.
انتهزت فرصة إقامتى معها، وتناقشنا كثيرا فى أحوال الأدب والصحافة، وقد أعجبت بآرائى، فمنحتنى شرف قراءة مجموعاتها القصصية، ارتحالات اللولؤ قبل خروجها للنور، وإبداء تعليقى عليها. لاحظت أنها مفتونة بأغنيات عبد الوهاب وفايزه أحمد، وتعيد تشغيلها باستمرار، كما لاحظت اهتمامها بروايات ماركيز، وكانت لها أجندة خاصة تسجل فيها بعض العبارات التى تراها لافتة أو تخطر على بالها، كما كانت تعشق التزين بالحلى الفضية، ولا تبخل بدفع مبالغ كبيرة لاقتنائها، فترتدى الأقراط والعقود والخواتم ذات التصميمات البديعة والمتفردة.
استمرت علاقتى بها لسنوات عدة حتى باعد بيننا زواجى والسفر، ثم واظبت على الاتصال تلفونياً من آن إلى آخر حتى هزمتنا مشاغل الحياة، فانقطعت الاتصالات، إلا أنى كنت أتابع أخبارها من حين لآخر فى الجرائد.
فشعرت بالحزن الشديد عندما هاجمها المرض اللعين قبل خمس سنوات، وتابعت المعارك التى خاضتها بإصرار حتى استطاعت أن تنال حقها فى الذهاب إلى فرنسا والعلاج على نفقة الدولة.
شعرت بالفرح الشديد حين علمت بفوزها 2007 بجائزة الدولة للتفوق عن روايتها يوميات امراة مشعة.
اتصلت بها مرة واحدة فى شهر يوليو الماضى، وبرغم التعب الواضح بشدة فى صوتها، إلا أنها لم تكن يائسة، بل تستشرف المستقبل بقلب يملؤه الأمل وعناد يقاوم المرض. وكان من المفترض أن أذهب لزيارتها، ولكن ظروف الحياة والسفر حال دون اتمام هذه الزيارة، وعندما قرأت الخبر قبل أيام فى الجريدة، أصابتنى ارتجافة حزن موجعة، وانتابنى إحساس قوى بالذنب لعدم زيارتها، فقررت الكتابة لأعبر عن اعتذارى وأقول لها: وداعا أبلة نعمة.
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة