فريدة النقاش

خذوا العبرة من تونس

الخميس، 23 أكتوبر 2008 01:29 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يطالب المجلس القومى للمرأة بوضع ضوابط لتعدد الزوجات، وأطالب أنا بإلغاء تعدد الزوجات تمامًا، كما فعل المشرع التونسى منذ اثنين وخمسين عامًا، حين صدر قانون الأحوال الشخصية متطلعًا إلى تحويل شرعية الواحدية فى الزواج مع الزمن إلى شرعية مجتمعية وليس قانونية فقط، وقد نجح المجتمع التونسى فى ذلك نجاحًا باهرًا رغم بعض المشكلات الجانبية هنا وهناك.

لجأ المشرع التونسى إلى قراءة مستنيرة ومتفتحة للنص الدينى الذى أباح التعدد، ولكنه كاد أن يحرمه، وهو ما فعله الإمام «محمد عبده» مفتى الديار المصرية قبل أكثر من قرن من الزمان، حين دعا لتقييد الزواج بواحدة فى سياق تجديده للفكر الدينى ومن واقع تجربته الشخصية فى أسرة تزوج الأب فيها عدة نساء ونشأت الضغائن بين الزوجات وبين الأبناء. ويجادل الذين يدافعون عن تعدد الزوجات بأن لدى الرجال بطبيعتهم طاقة جنسية أكبر كثيرًا من أن تشبعها امرأة واحدة ،خاصة بعد أن تنجب المرأة وتنشغل بأطفالها.

ويقولون أيضًا إن التعدد هو أفضل من اتخاذ العشيقات فضلاً عن أن الله سبحانه وتعالى قد شرعه له، حتى أن عالمًا كبيرًا فى الإسلاميات هو التونسى «محمد الطالبى» وفى معرض دفاعه عن الإسلام فى كتابه «عيال الله»، قال إن الإسلام شرع لما هو نزوع طبيعى لدى الرجال، ولذلك دون أن يتوقف أمام حقيقة أن التعدد مكروه فى القرآن الكريم، رغم الإباحة، ورغم أن السياق الاجتماعى الذى نزلت فيه آيات الإباحة، قد عرف الإفراط من التعدد وفى اقتناء الجوارى.

وترد الباحثة الأمريكية «ميليسيا هاينز» فى كتابها «جنوسة الدماغ» على الفكرة الشائعة حول الطاقة الجنسية للرجال متسائلة: هل تأثير الهرمونات فى الفروق الجنسية وفى القدرات الإدراكية، تجعل الفصل فى المهن على أساس الجنس أو التمييز الجنسى فى الرواتب أمرًا لا مفر منه؟ وما إذا كان الرجال أقل قدرة نظريًا على رعاية الأطفال، أو ما إذا كانوا مبرمجين فطريًا لتعدد الزوجات.

وترد الباحثة بناء على دراسات متعددة ومتنوعة قائلة: إن البيانات التى أنتجتها دراسات الفروق الجنسية، تنفى هذه الفرضية تمامًا، فالقدرة الجنسية تتطور فى الإنسان إما إلى خصيتين أو مبيضين، والمحددات الرئيسية فى اختلاف النسبة بين الجنسين هى عوامل اقتصادية وسياسية، والهرمونات ليست أبدًا المؤثر الوحيد فى سلوك الإنسان، وإذا كانت الهرمونات تساهم فى تشكيل السلوك فإنه لايزال بالإمكان التأثير فيه بوسائل أخرى.

راكمت الثقافة الإنسانية عبر آلاف السنين صورة «للفحولة»، وأصبحت توقعات المجتمع من الرجال مبنية على هذه الصورة، ويتطلع بعض الرجال إلى تلبية هذه التوقعات عبر تعدد الزوجات أو العشيقات، ليثبت الواحد فيهم أنه هو ذلك الرجل النموذجى الذى يثير إعجاب المجتمع، إذ أن الإخلاص الزوجى هو طبقًا لهذه الفكرة خيبة.

والتعدد - أيا ما كانت أسبابه - هو سلوك غير إنسانى لأنه ينزع عن الحب طابعه الشخصى، والإنسان هو الكائن الوحيد على هذا الكوكب الذى ابتدع الحب الشخصى بين رجل وامرأة، دون بقية الكائنات حتى سياق تطوره وخروجه من مملكة الحيوان، واكتساب وعيه بذاته كإنسان، ولأن التعدد فى علاقات الحب ينفى عنها مباشرة طابعها الإنسانى، وينزل بها إلى المستويات الحيوانية، وفى هذه المستويات يكون الإشباع الغرائزى هو الأساس وليس الحب المتكامل، الذى يستحيل إلا أن يكون واحديًا.. ولأن التعدد هو كذلك، أى إشباع للغريزة فإنه خروج للإنسان من مملكته وانحدار بإنسانيته.

يبدو الكلام هنا كأننا نتحدث عن مملكة مثالية ،يعيش فيها الإنسان «من طهارة الملائكة» كما يصف «نجيب محفوظ» فى الحرافيش أناس تلك الدنيا القادمة المتحررة من الخوف والحاجة والاستغلال والظلم، ولكن إذا بقينا فى إطار هذا الواقع البائس الذى نعيش فيه، سوف نجد أن الآلاف ـــ وربما مئات الآلاف ـــ من الأسر تعيش فى شقاء بسبب عدم التوافق الجنسى بين الرجل والمرأة، ناهيك عن الأسباب الاقتصادية مثل البطالة وتدهور مستوى المعيشة.. إلخ.

ويهرب بعض الرجال من عدم التوافق إلى التعدد، خاصة إذا كان قادرًا ماديًا، وتحمل الزوجة الأولى صفة المهجورة، وتنشأ الظاهرة التى تحدث عنها الإمام «محمد عبده»، أى الإخوة الأعداء والضرائر، وما ينتج عن ذلك كله من شقاء إضافى، لكن هناك رجالاً آخرين يتزوجون ثانية من باب «الدناوة»، والتى تضرب بجذور عميقة فى الصورة النمطية للرجل «الفحل»، وتوقعات المحيط منه ومباهاته بقدراته ولا يستطيع أحد أن يقدم وصفة تصل فيها العلاقات بين أطراف الأسرة، وبخاصة الزوج والزوجة، إلى أعلى مستويات الرقى الإنسانى، فذلك يتم فقط عبر التطور المتواصل وإقامة العدالة وتجديد الخطاب الدينى وانتشار الثقافة النقدية، التى تقدم صورًا للرجولة تنهض على القيم والمثل العليا، لا الفحولة والقدرة الجنسية، ثقافة تكشف عن أعماق المسكوت عنه فى البناء الاجتماعى، وصولاً إلى مجتمع تقوم فيه العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس من الحب وحده.

وحين تنتهى هذه العلاقة يكون بوسع الطرفين فضها على قدم المساواة ليتاح لكل منهما أن يدخل فى تجربة جديدة، إذا شاء دون ضغوط أو خوف أو خضوع أو تحايل ونفاق أو تعدد فى العلاقات، وهنا يأتى دور القانون فى إلغاء إمكانية التعدد، والوصول إلى مثل هذا المجتمع هو عملية صراعية وكفاحية طويلة المدى.. طويلة جدًا.. لكن علينا أن نبدأها.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة