"درب حسين" منطقة عشوائية تقع بالقرب من ميدان الجيش بأول شارع الحسينية بحى وسط القاهرة، مساحتها تبلغ أربعة آلاف متر تابعة لوزارة الأوقاف، والتى أكد المسئولون أنها كانت تشكل بؤرة للتلوث، لذلك تم إزالتها منذ ثلاثة أيام مضت ضمن خطة المحافظة للقضاء على المناطق العشوائية، لكنها لم تضع فى اعتبارها أنها عندما تقضى على هذه المناطق ستقضى على حياة العديد من الأسر دون أن توفر لهم أى مأوى.
أصبح سكان المنطقة يعانون من وحشة الشوارع وبلطجية يطاردونهم فى كل مكان ، بل أصبح الرجال يفترشون الأرض طول الليل من أجل حراسة ممتلكاتهم التى ما إن تقع عليها عيناك إلا وتدرك المعاناة التى يعيشها هؤلاء، وحالتهم المادية البسيطة التى استكثرتها عليهم الحكومة ولم ترحمهم عندما أزالت بيوتهم فى "درب حسين" .
وبالرغم من كل ذلك، خرج علينا المسئولون بتصريحات وردية بعد إزالة هذه المنطقة، وبوعود حول تعويضات لأصحاب المحلات والمخازن ستبلغ ما يقرب من مليون جنيه، وشقق بديلة فى منطقة مدينة السلام لجميع الأسر باستثناء القليل من الذين لم يستكملوا أوراقهم حتى الآن.. صدقت بعض هذه الوعود، ولكن هناك أزمتين نتجتا بعد الإزالة، الأولى، ست أسر مشردة فى الشارع بلا مأوى منذ خمسة أيام بحجة "أنها لم تستكمل أوراقها"، والمشكلة الثانية وصول التعويضات لغير مستحقيها.
المشكلة الأكبر تتمثل فى الأسر الضائعة، أولادا ونساء وشيوخا، فى الشارع حتى الآن، فمنهم المرضى والمعاقون، ونساء على وشك وضع مولودهن وأخريات مسنات لا يستطعن تحمل قسوة الشوارع. زار هذه الأسر العديد من المسئولين فى المنطقة، وعلى الرغم من ذلك مازال الشارع هو مئواهم الوحيد.
عندما ذهبنا للمنطقة لتفقدها والتحدث مع المتضررين والتحقق من وصول التعويضات لهم، وجدنا الهدوء يلف المكان، فظننا أن المسئولين أدركوا المعاناة التى يعيشها هؤلاء وتم حل المشكلة، إلى أن أكد أحد المتضررين أنهم متفرقون عند الجيران وداخل الجامع لأداء صلاة الجمعة.
شاهدوا الكاميرا فتجمعوا حولنا على الرغم من قرب إقامة الصلاة، وظلوا يشكون لنا معاناتهم منذ وقوع حادث الإزالة، الذى حدث بشكل مفاجئ دون سابق إنذار، إلى اللحظة التى يتحدثون فيها إلينا. القصص كثيرة وجميعها يجعلك تتعجب من عدم سرعة اتخاذ المسئولين قرارات لن تكلفهم شيئا وتنهى مأساة هذه الأسر.
صرخ سيد أحمد محمد عبد النبى بأعلى صوته ممسكا بزوجته التى ظننا أنها فى حالة وضع الآن قائلا "ودى بقى تولد فى الشارع لحد ما يفحصوا أوراقنا"، وبدأ يحكى قصة الإزالة منذ وعد اللواء شريف يونس رئيس الحى له بتعويض بعد أن تعتمده مرافق الشرطة فى لجان الحصر، التى تعد السبب الأول فى تشريد الأسر، كما أكد سيد أن لجان الحصر كتبت الموجودين فقط وكل من كان فى عمله أو خارج شقته لم تعتمده اللجنة، كما حدث معه لأنه كان فى عمله وزوجته وابنه عند والدتها تنتظر وضع مولودها، فى حين أكد أحد المتضررين أن اللجنة كانت تتقاضى أمامه الرشاوى لتقييد بعض الأشخاص ضمن المتضررين من الإزالة، وفى النهاية كما أشار سيد "اللجنة حصرت اللى على هواها"، والغريب أن المسئولين ذكروا أن عدد الأسر 37 أسرة فى حين أنهم 40 أسرة.
الخروج كان بالقوة الجبرية بواسطة رجال الأمن المركزى، الذين تمكنوا من إخراج الجميع إلا السيدة فاطمة على التى ظلت قابعة فى منزلها إلى أن دخل عليها البلدوزر وأجبرها على الخروج، وحين طالبها ابنها من خارج المنزل بعدم المغادرة قبض عليه رجال الأمن ووضعوا الكلبشات فى يده.. هذه الرواية جاءت على لسان السيدة نعمة التى لا علاقة لها بالإزالة سوى أنها تأوى بعض من جيرانها المتضررين بممتلكاتهم فى منزلها، والتى حين طالبت رئيس الحى بتوفير شقق مؤقتة حتى يتم فحص حالة الأسر وإن كانت فى مساكن الإيواء، رد عليها قائلا"مالناش دعوة بيهم وزى ما اتصرفوا وباتوا عند الجيران يفضلوا زى ما هم واللى استحملهم يوم يستحملهم عشرة لحد ما نتصرف".
بعد سؤالنا لهذه الأسر عن أوراقهم غير المكتملة، أسرع الجميع يخرج أوراقه لإثبات أن هذه حجة واهية من المسئولين، وأقسم بعضهم أنه ولد فى هذا المكان وتزوج وأنجب فيه، وأنهم ليسوا سكاناً جدداً على المنطقة ولا يملكون شققاً أخرى يذهبون إليها، وبالتالى فهم أكثر المستحقين للشقق، وطلب البعض إنقاذهم من البلطجية الذين يترددون عليهم يريدون سرقة متاعهم والتهجم على بناتهم.
يشير المتضررون إلى أن الأرض تابعة للأوقاف، وأن قرار الإزالة لم يكن لأنها منطقة عشوائية تسبب التلوث، ولكن لأن المحافظة تريد بيعها بملايين، فأوراقهم عند رئيس الحى منذ فترة ولم يتم فحصها حتى الآن، مما اضطرهم إلى التظاهر أمام الحى سبع مرات، وكل مرة يغلق المكتب أمامهم وتحاصرهم قوات الأمن.
مها خميس محمد أحمد تعيش فى منزل جدها بولدها اليتيم، وعدها رئيس الحى بشقة بديلة حتى تخرج، وعندما خرجت مطالبة بالتعويض قال لها "امشوا من هنا مفيش شقق، لحد ما نفحص حالتكم ونشوفكم تستاهلوا الشقق ولا لأ".
أصحاب المحلات والمخازن هم الفائزون فى هذه الأزمة، فجميعهم حصلوا على التعويضات التى بلغت خمسين ألف جنيه لكل منهم، وعلى الرغم من ذلك حدث تلاعب، فقد حصل م. ك. د. صاحب مخزنين على 100 ألف جنيه كتعويض وتقاسمهم مع آخر، وذلك بالرغم من حصوله فى نفس الوقت على ثلاث شقق كتعويض عن المنزلين اللذين يمتلكهما هو وأخوته، وفى النهاية تسلم الشقق وقال لهم"هأبقى أعوضكم"، لأن الأوراق التى تثبت ملكية المنزل جميعها فى حوزته، والآن أخوته مشردون بلا مأوى.
أعضاء المجلس المحلى لم يتركوا الأسر وظلوا يزورونهم طوال الوقت ويحصلون على الأوراق منهم لتوصيلها للحى ولكن دون نتيجة، المفاجأة أن المنطقة صدر لها قرار بالإزالة منذ عام 2006 ولم ينفذ، وتم تنفيذه الآن فجأة بدون إنذار ساكنيها.
بكاء شديد وصراخ تسمعه من عبد الله حسن المصاب بمرض مزمن يجعله يعمل عملا خفيفا، والذى تلقى إنذارا بالفصل بسبب انتظاره فى الشارع للتعويض ولحماية أسرته، ويشكو" لو اتفصلت مين يقبل يشغلنى بعمل مخفف تاني"، ويطالب عبد الله ببحوث الإسكان التى حصرتهم جميعا بواسطة سيدتين من الحى، ولكن رفض الحى طلبه ولا يعلم حتى الآن لماذا يخفونها، ويبكى قائلا "إحنا مبنعرفش وسايط علشان كده إترمينا فى الشارع".
قامت صلاة الجمعة والناس تشكو من عدم تمكنها من الصلاة فى المسجد بسبب وجود بعض الأسر المتضررة بالداخل بأمتعتهم.. وآخرين عند الجيران، وسيبقى حالهم على ما هو عليه إلى أن يتم فحص أوراقهم التى فى حقيقة الأمر لا تحتاج لأى فحص لأنها كاملة.
وفى اتصال لليوم السابع مع محافظ القاهرة الدكتور عبد العظيم وزير لمعرفة مصير هؤلاء المشردين، رد قائلا "هو إحنا كل حاجة نعملها تقولوا فى أسر فى الشارع"، وعندما أكدنا له أن هناك بالفعل أسراً فى الشارع تنتظر فحص الأوراق قال "اتصلوا برئيس الحى واعرفوا منه، من جانبى سأتصل به لأتأكد إن كانوا يستحقون هذه الشقق أم أنهم مدعون".
وفى النهاية.. هناك ست أسر تنتظر الفرج، وهى أسر سيد أحمد محمد عبد النبى، عبد الله حسن محمد أحمد، فاطمة على أحمد شحاتة، مها خميس، نورا على، سعاد على عطية.
الأسر تفترش الأرض.. والمسئولون "آخر طناش" - تصوير أحمد إسماعيل
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة