أثبتت الأزمات والحوادث التى ألمت بمصر فى الفترة الأخيرة أن هناك غيابًا شبه تام لثقافة وآليات إدارة الأزمات عن معظم المسئولين والمؤسسات.. فعلم إدارة الأزمات ببساطة هو «التخطيط لما قد لا يحدث»، ويرتكز فى الأساس على مرحلة سابقة على وقوع الأزمة الحادة نفسها هى المرحلة التحذيرية التى تظهر فيها مؤشرات تنبئ باحتمال حدوث أزمة مستقبلاً فتظهر قدرة الإدارة على التعامل معها كجهاز إنذار مبكر وتتخذ من الإجراءات ما يقلل من أضرار الأزمة عند وقوعها، بينما تؤدى الغيبوبة الإدارية إلى عدم الاستفادة من هذه المؤشرات فى حينها ومن ثم تنزل الأزمة كالصاعقة المفاجئة بدرجة تجعل ما يطلق عليه إدارة الأزمة بعد وقوع الحدث مجرد محاولة للتحكم فى الضرر الناتج.
فى أزمة الدويقة مثلاً استمرت المرحلة التحذيرية خمس عشرة سنة منذ سقوط صخرة «الزبالين» وتحذيرات علماء الجيولوجيا بحتمية حدوث انهيارات تالية فى عدة أماكن من بينها الدويقة، وكانت التشققات المتزايدة فى صخرة الدويقة ظاهرة للمارين من أمامها، ومع ذلك لم يتحرك أحد من المسئولين إلا بعد أن وقعت الواقعة فعلاً، واقتصر دورهم فى إدارة الأزمة على استخراج الجثث وتصاريح الدفن! ويمكننا أن نرصد نفس الفشل فى أزماتٍ أخرى كالحرائق المتتالية وأزمة خطف القافلة السياحية بالجلف الكبير وغيرها.
ولكننا نستطيع أن نرصد وسط هذا الفشل المتتالى نماذج نجاح ونقاطاً مضيئةً (رغم قلَتها) تستحق الإشادة.. ففى ظل مقدمات أمواج الأزمة الاقتصادية القادمة لنا من أمريكا والتى يقلل من مناعتنا ضد آثارها عددٌ من السياسات الكارثية المتراكمة التى حذَر منها العديد من الاقتصاديين الوطنيين ولم يستمع لهم كهنة الرأسمالية المتوحشة عندنا بمزيج من التعالى والاندفاع (وتلك قضية أخرى قد نتناولها مستقبلاً) إلا أن هذه الأزمة أثبتت أن المسئولين حتى داخل ما يسمى بالمجموعة الاقتصادية الحاكمة ليسوا سواءً، فبينما كانت نقطة البداية فى الكارثة المالية الأمريكية هى مشكلة التمويل العقارى حيث بلغ حجم الرهونات العقارية 5 تريليون دولار مع انعدام الضمانات الحقيقية لسداد أقساطها، فإن السياسات الاستباقية التى اتخذها البنك المركزى المصرى برئاسة الدكتور فاروق العقدة جنبتنا حدوث كارثة مماثلة.. إذ صمد بصلابة فى وجه ضغوط عاتية فى العامين الماضيين كانت تطالبه بفتح الباب بلا حدود أمام قروض التمويل العقارى ، وهى ضغوط قادها (لأسبابٍ مختلفة) وزير الاستثمار المسئول عن هيئة التمويل العقارى، وأباطرة شركات الإسكان والمقاولات (الذين يقودون الحزب والمؤسسة التشريعية فى الوقت نفسه) وأغرقوا المصريين بطوفان إعلانى مغرٍ يوحى بتحول مصر إلى منتجعٍ كبير.. لكن العقدة الذى رصد بوادر الأزمة فى أمريكا وقف بصلابة فى وجه هذه الضغوط وأصدر تعليمات صارمة فرضت على البنوك المصرية ألا يزيد حجم الائتمان العقارى على 5 % ووضع شروطاً مشددة لضمان جدية الائتمان وتوجيهه إلى مشروعات عقارية يتم بناؤها بالفعل بما منع معظم صور التلاعب وحدَ من إمكانية المضاربة، وها نحن نكتشف وقد وقعت الكارثة بالفعل فى أمريكا أننا فى مأمن من هذا الجانب من الكارثة على الأقل إذ إن حجم التمويل العقارى فى المصارف المصرية حوالى 3 % فقط من حجم ائتمان البنوك.
اختلفنا (وما زلنا) مع العقدة فى بعض الأمور لعل على رأسها الإقدام على بيع البنوك العامة (وهو ما تراجع عنه مؤخراً) إلا أن الأمانة تقتضى أن نشهد للمختلفين معنا إذا أحسنوا ونشد على أياديهم.. السيد الدكتور فاروق العقدة: شكراً!!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة