تصوغ الروائية المصرية ميرال الطحاوى فى روايتها الأخيرة (نقرات الظباء) الصادرة فى طبعتها الثانية عن دار شرقيات، سيرة ذاتية أنثوية من نمط خاص، متخذة من الأنثروبيولوجى والتاريخى والسياسى والثقافى، أدوات فنية لرسم وقائع وأحداث جرت على طرف الصحراء موطن البداوة.
الصحراء تمثل مكانا ذا دلالة ترميزية، إلا أن المخيال السردى فى الرواية نجح فى خطفها صوب فضاءات مغايرة ملبدة بالجدب والتناقضات، لنشهد صراعاً خفياً بين الصحراء والمدينة من جانب، ومن جانب آخر بين الثقافة الفحولية الصارمة والنسق الأنثوى المهمش.
الرواية برمتها تشكل احتفاءً بالأنوثة، ووفق تقنية سردية تتكئ إلى ذاكرة المكان عبر الوقوف على باقة من الصور الفوتوجرافية واللوحات التشكيلية المنتقاة بعناية لأبطال الرواية وشخوصها، ومن ثم الانتقال وعبر تقنية الخطف خلفاً، إلى أحداث وعوالم سردية ضاجة بالإثارة والتشويق، مستثمرة براعة وجهة النظر فى تأطير هذه الصور أو نزع الإطار عنها.
وتبدو، على سبيل المثال، صور الفحول مؤطرة فى الأغلب بأطر مذهبة ومزركشة، فيما تأتى صور الإناث منزوعة الأطر فى معظم الأحيان أو مؤطرة بأطر غائمة الملامح. ولعل تغيب الإطار أو حضوره يطرح إشكالية ترميزية لافتة تأمل، مثلاً استهلالة الرواية التى شاءت أن تموضع بطلات الرواية الإناث فى صورة فوتوجرافية، إلا أنها صورة مؤطرة،
لاحظ الآتى .
(كانت هند دائماً صغيرة وبجديلتين وأشرطة. رأيتها تجلس على ساق سيدة زنجية شديدة السمرة، على رأسها عقدت منديلاً أبيض وتطرحت بالسواد، عليها ثوب قصير بوردات، وعلى خصرها حزام من الخرز الذى تضعه الغجريات، وتحته سروال منتفخ بربطة على معصم الساق. قالوا إن اسم الخادمة، انشراح، وكانت تقف إلى جوارها سقاوة الممتلئة وسهلة النحيلة، حتى الآن كانت سهلة هى التى اعرفها تماماً. والنجدية لم تكن فى الصورة، كانت حاضرة خلف الإطار). اكتفى بهذه الاستهلالة لأوضح أموراً شاءت الرواية أن تلفت إليها الانتباه، لعل أهمها هو تغييب النجدية الأم وزوجة شيخ القبيلة –الحاكم بأمره - من الصورة، لتكون خلف الإطار الذى هو من صنيع الثقافة الفحولية التى تبارك ثقافة الوأد والتهميش.
فى حين شكل حشد الإناث (سقاوة + هند + سهلة + انشراح)، أربعة مرايا لرصد انعكاسات النبذ وطقوس الوأد بأربعة ردود أفعال متباينة، فثمة سقاوة – الابنة الكبرى- التى تتشنج حد الموت، وتموت مضرجة بدمائها فى ظروف تمعن الرواية فى تغليفها بهالة من الغموض، وثمة هند –الابنة الوسطى - التى يحجر عليها جسدياً وعقلياً بحجة جنونها حد الموت، وثمة سهلة - الابنة الصغرى - التى تتسلح بالصمت لتواجه القمع وطقوس الوأد، وأخيراً انشراح (العبدة) وفق التصنيف الطبقى القبيلى داخل الرواية التى نقلها السرد منذ البدء من الهامش الطبقى إلى متن الصورة، فقد واجهت الوأد النفسى بسبب حرق ولدها سهم، غيلة وغدراً، بالحركة الواعية باتجاه نحر الذات طواعية، وتغيبها فى زنزانة المكان أولاً وزنزانة الذات ثانياً حين أفقدتها عتمة القمع بصرها وبصيرتها.
وربما تنساق ميرال الطحاوى مع الوجع الأنثوى، فيتوحد صوتها مع صوت (مهرة) الأنثى الساردة، لتكريس وجهة النظر التى تدين طقوس الوأد النفسى من داخل النص وخارجه، وقد أضاء هذا التأويل، الملامح المموهة للصور الباهتة "هند التى لم أرها فى غير هذه الصورة التى كانوا يقفون أمامها فى غرفة الصالون، التى امتلأت حوائطها بالصور الباهتة. لم يكن لها صورة عرس. كانت فقط منزوية على حجر خادمتها (انشراح)، صغيرة وبجدائل، يقفون أمامها يرددون تلك الكلمة (مسكينة). وقد صاروا لا يتكلمون عنها، لأنها بدت بعيدة، وخارج كل ما يخصهم، قالت الجدة (النجدية ) تلك الكلمة، ثم أكملت أنها لما رأتها آخر مرة كان شعرها كثيف البياض، وجسدها شديد النحول، رأتهم يسكبون الماء على جسدها، قبل أن يلفوها بالكفن، بعدها ينثرون العطور وينصرفون، دون أن يصرخوا أو يبكوا أو حتى يلبسوا ثياب الحداد، كانوا قد أعلنوا عن موتها قبل ذلك بكثير، من يوم أن ادخلوها هذا البيت، وأغلقوا النوافذ والأبواب، انسحبوا غير منتبهين إلى صراخها. وقالوا (مسكينة) ثم تحاشوا ذكر اسمها؟، رجعوا سريعاً إلى بيوتهم. لكن هند منذ ذلك الحين تأتى إليهم، أول مرة شاهدوها تركض فى الفناء).
يشتغل هذا المتن السردى على أكثر من مستوى ترميزى، لعل أولها هو المستوى البصرى للتصوير الفوتوجرافى الذى يتحرك تارةً ليؤكد، وعبر ملامح الصور الباهتة، المكانة التى تمتلكها الأنثى فى الصالون الفحولى، وتارة أخرى يفضح (لم يكن لهند صورة عرس) تفاصيل حدث زواجها بابن عمها الذى تمحورت حوله الرواية، إذ لم يكن عرساً وإنما كان اغتصاباً جسدياً، ووفق مباركة جماعية لا تعنيها إحساسات هند الراعفة، وهى تخضع لمراسيم تطبيق عرف قبيلى بائد يمجد ملكية ابن العم لإناث عمه، وبالتالى يكون الجسد الأنثوى ملكاً خاصاً تتداوله البروتوكولات الفحولية.
أما المستوى الثانى، فقد تمظهر فى النسق الأنثوى المستهلك للثقافة الفحولية السائدة عبر ملامح الجدة (النجدية)، بل إن استبدال واو جماعة الذكور محل نون النسوة فى (يصرخوا + يبكوا + يلبسوا ثياب الحداد + ....) إشارة دامغة إلى هيمنة نسق على نسق، زد على ذلك أنه يفضح الفاصل النفسى بين هند وسرب الإناث المتحرك على سطح النص.
ويضئ المستوى الثالث، طبيعة العقاب النفسى الذى مارسته الرواية على هؤلاء الذين تضرجت أيديهم بدماء هذه الموؤدة حية (لم ينتبهوا لصراخها فى بيت أغلقوا فيه النوافذ والأبواب) وميتة، حين صارت هند عصية على ذاكرة النبذ حين صيرها المخيال السردى قطة جميلة (لكن هند منذ ذلك الحين تأتى إليهم). الرواية باختصار بما تحمله من جدية فى أطروحاتها السردية التى تؤصل لبيئة البدو، وطقوسها الشعبية التى تلتف حبالها حول خناق الأنوثة، ولاسيما طقس الزواج بابن العم، فهى تنجح فى أن تضعك وجهاً لوجه مع ثقافة الوأد عبر أحداث مستعرة تترك آثارها الواضحة على التنامى السردى.
وربما تستشعر وأنت ترد هذه الفضاءات الملبدة بالنبذ، تناغماً إيقاعياً بين نصال الفتك بالجسد الأنثوى، بل قل بالوجود الأنثوى بأكمله، وبين نقرات الظباء وإيقاعاتها المتلاحقة على أرض رملية مجدبة. لنكون تحت ظلال هذه العنونة اللافتة والمشاكسة للمنتج السردى اللاحق قبالة تجربة إنسانية تراجيدية، تفضح إحساسات الأنوثة بهشاشة كينونتها وعبثية وجودها، واللاقيمة المطلقة لدورها الاجتماعى ككيان بشرى، حين تكون موضوعاً للنبذ القدرى وطقساً من طقوس الوأد.
والرواية تنجح فى الاقتصاص من صناع القرار الفحولى، ومروجى ثقافة الوأد، بوأد مضاد، فهى تنفى شقيق الفتيات الثلاث (نافذ) الذى مارس وأداً نفسياً وحجراً ثقافياً على هند تحديداً، إلى بلاد الصقيع (نيوجرسى)، وهى تنفى الشيخ لملوم بن منازع (الأب)، ومطلق الشافعى السليمى (الزوج)، ليكونا فى هامش السرد، وتبقى هند وسهلة والعبدة انشراح مضاءات بكل عذاباتهن فى المتن السردى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة