كثير من الكتاب الغربيين جاءوا إلى الشرق وأفريقيا، بدوافع مختلفة، منهم من جاء ضمن قوافل المستشرقين الذين مسحوا العالم غير الأوروبى ثقافياً وجغرافياً، تمهيداً لاستعماره، مثل جوزيف كيبلنج ومنهم من جاء إلى الشرق هارباً من غربيته وبحثاً عن الجنة المتمثلة فى الأرض البكر مثل بودلير وجيرار دى نرفال، ومنهم من فر من المنطق الغربى إلى متاهة لا يعرفون نهايتها مثل الشاعر العبقرى آرتور رامبو، ومنهم من بحث عن البدائية والوحشية مثل الفنان العظيم بول جوجان، كما أن عدداً كبيراً من المبدعين الغربيين هربوا من المادية الغربية إلى الشرق الروحانى مثل ريلكه وهيرمان هيسه وسان جون بيرس الذين بحثوا عن خلاصهم، بعيداً عن التصور العنيف للثقافة الغربية التى قسمت العالم إلى غربى متحضر، وشرقى بدائى أو همجى متوحش، المنطق الذى عبر عنه كيبلنج شاعر الإمبراطورية البريطانية بقوله "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا". فمن هو لوكليزيو ضمن هؤلاء الكتاب الغربيين؟
لوكليزيو، ومن خلال أحدث أعماله القصصية "ثلاث مدن مقدسة" والتى ترجمها إلى العربية الكاتب التونسى خالد النجار، يقدم نفسه باعتباره امتداداً لريلكه وسان جون بيرس وجان جينيه معا، فهؤلاء الكتاب تحرروا من المركزية الثقافية الغربية، ومن الاستعلاء الغربى على العالم، وبحثوا عما يوافق أرواحهم من ثقافات العالم، بعد أن أعياهم تشبث الغربيين بالحياة، وفق تصور دارون الذى اعتبر الحياة شيئاً لا يمكن اقتسامه مع الآخرين، إما نحن وإما هم.
لجأ لوكليزيو، فى كتابه "ثلاث مدن مقدسة" إلى إعادة الاعتبار للحضارة التى قامت فى المكسيك، من خلال ثلاث بقاع يعتبرها مقدسة: "شانكاه" و"تيكسكال" و"شون بوم"، القداسة التى يطرحها لوكليزيو على هذه الأماكن الثلاث، تأتى من احتفائه بإيقاع الحياة فيها بأناسها وهمومهم ووازعهم الدينى الخاص، وثقتهم المطلقة فى حياتهم كما هى.
يقول لوكليزيو فى القسم الأول من الكتاب "شانكاه"، "هنا ندعو بلا توقف وننتظر المياه والانتقام والحياه،فى بقاع أخرى، فى المدائن المقفرة يموج البشر، يصرخون، يرتفعون وينخفضون، ومحركات السيارات تهدر، تمزق السكون، إنهم يبغون الهدم".
مقابلة بين عالمين يقدمها لوكليزيو فى كتابه "ثلاث مدن مقدسة" بين العالم الغربى المفقر للإنسان، الذى يدفعه باستمرار للعدو والحركة العبثية حتى ينسى أجمل ما فيه .. إنسانيته نفسها، وبين عالم الحضارات والمدنيات غير الغربية، والتى مازال يحتفظ ببعضها، مثلما الحال مع مدنه المقدسة بالمكسيك، بإيقاعه الإنسانى، لم يتسلط عليه الطغيان المادى العبثى، ولم تصبح حياة الآلات بديلاً عن حياة البشر، ولم ينس الإنسان لماذا يحيا؟ ولم يصبه الخوف الغربى من الموت، بل ما زال البشر يعيشون حياتهم مرتبطين بالأرض وبالسماء معاً، باعتبارهم الصلة بين الاثنين، ومازالوا يعتبرون الموت جزءاً من الحياة والمرض حالة وجودية تستحق التأمل، والطعام طقساً يمجد الحياة ويجلب السعادة.
يمشى لوكليزيو حافياً على الأرض الساخنة بالمكسيك، ويعانى حرارة الشمس التى تلهب الأدمغة، ويأكل الطعام نفسه الذى فرضته تعاليم الآلهة، ويصمت فى ساعات التأمل المقدسة، مصغياً إلى معنى وجوده، ليكتشف أن الدين هو طريقة الحياة التى تجعل من الإنسان إنسانا حقاً، وقادراً على الدفاع عن روحه من السقوط فى عبودية الأشياء.
موضوعات متعلقة:
1- علامات فى طريق جان مارى جوستاف لوكليزيو
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة