شهدت الساحة الصحفية والقضائية مؤخراً أحداثاً وأحكاماً غاية فى الأهمية.. أولها الحكم على الزميل إبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة الدستور بالحبس لمدة شهرين فى القضية المعروفة بصحة الرئيس.. وقيام دفاع عيسى ونقابة الصحفيين بتقديم استشكال فى الحكم، وطلب للنائب العام لوقف تنفيذ الحكم. وثانيها القضية التى تتداولها المحكمة بشأن الدعوى التى أقامها شيخ الأزهر ضد صحيفة الفجر ورئيس تحريرها الزميل عادل حمودة والزميل محمد الباز والتى قال شيخ الأزهر، إن ما نشرته الجريدة يحط من قدره، ثم قيام وفد من نقابة الصحفيين برئاسة النقيب بزيارة شيخ الأزهر وتقديم الاعتذار، حتى يتنازل عن الدعوى، إلا أنه أبى وصمم على سير إجراءات التقاضى حتى تم الفصل لصالحة بتغريم الزميلين 80 ألف جنيه على كلٍ منهما. وثالثها القضية التى رفعها بعض أعضاء الحزب الوطنى ضد أربعة من الزملاء رؤساء تحرير أربعة صحف والذى صدر بحقهم حكماً بالحبس لمدة عام وغرامة 10 آلاف جنيه وكفالة 1000 جنيه لكل منهم، بسبب قذف وسب رموز الحزب الوطنى، ومازالت إجراءات الاستئناف ضد الحكم مستمرة.
وبغض النظر عما حدث فى قضية إبراهيم عيسى من إصدار الرئيس حسنى مبارك قرار جمهورياً بالعفو – طبقاً لصلاحياته الدستورية – عن عقوبة حبس عيسى، وتوصية الرئيس لوزيرى الداخلية والعدل لتنفيذ قرار العفو كلاً فيما يخصه، حرصاً منه على ألا يكون له أية خصومة مع أى مواطن من أبناء مصر، إلا أن هذه القضايا برمتها تكشف عن خلل جسيم فيما يخص حريات الرأى والتعبير، والفرق بينها وبين التجريح والحط من شأن أى شخص سواء كان مسئولاً أو غير ذلك. وهو ما وضع المؤسسة القضائية فى حرج كبير، فهى تتعامل طبقاً لقوانين ومواد قانونية تخص عقوبة الحبس فى قضايا النشر، التى لم تثبت قدرتها على الردع، مما يجعلنا نتساءل عن أهمية الإبقاء على هذه المواد، وكيفية تعامل رجال القضاء معها. إضافةً إلى أن المؤسسة القضائية نفسها أصبحت فى مأزق بعد تشابك بعض رجالاتها مع الواقع السياسى فى السنوات الأخيرة، مما قلل من هيبة احترام بعض أحكامها والتعليل بأن النظام القضائى نفسه أسير للسلطة التنفيذية وتابع لها، رغم استقلال القضاء بحكم النص الدستورى فى المادة 164 الذى يقول "السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون"، والنص الدستورى الآخر فى المادة 165 الذى يقول "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم فى قضاياهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة".
من هنا يتضح أن القضاء وجد ليقول الكلمة النهائية.. كلمة الحق فى أية واقعة تحدث أو نزاع ينشب بين الناس، والمفروض أنه بعد أن يقول القضاء كلمته، مستنداً إلى الأسباب التى اقتنعت بها المحكمة بما انتهت إليه من حكم أن تجف الأقلام وعدم الخوض فيه، إلا أن ما حدث فى السنوات الأخيرة عكس أمراً مناقضاً لذلك، والسبب – ومن وجهة نظرى الشخصية التى تحتمل الصواب أو الخطأ – أنه منذ اشتباك رجال القضاء مع الواقع السياسى الملتبس بما له وما عليه، فقد فقدت هذه المؤسسة المدنية العريقة درجة من درجات سموها وتقديرها، وهو ما انعكس من خلال التعليقات على أحكامها النهائية، فلم يكن هناك من قبل سواء لفرد أم لمؤسسة الجرأة على الاشتباك أو التعليق على أحكام القضاء، فالقانون واضح وبين وأحكام القضاء لها أساليبها فى الاعتراض أو الطعون عليها من خلال آليات قانونية سنها القانون ولا مجال على الإطلاق لغير ذلك من الاعتراض، ولكننا لاحظنا فى الفترة الأخيرة اعتراض البعض، وهو ما ساهم فى انفلات وضعية سيادة القانون واهتزازه وأصبح مثار الغمز واللمز، رغم أننا نمتلك نصوصا دستورية بينة ودامغة على استقلال هذه المؤسسة وسموها كما أشرنا، ولكن ما هو المقصود بالفعل من حريات التعبير والتى كان جراؤها تلك القضايا السابق ذكرها، وهل هناك فروقات قانونية واضحة بين حريات التعبير المتاحة قانونا وغيرها ممن ينطبق عليها مواد عقوبات الحبس. أتصور أن بالفعل هناك فروقات واضحة فى المجتمع الديمقراطى، فبادئ ذى بدء فإن الديمقراطية لا تتعلق فقط بمجال الدولة أو الحكومة حسب ما ننزع عادة إلى اعتقاده، فالمبادئ الديمقراطية ذات صلة وثيقة بالاتخاد الجماعى للقرارات فى أى نوع من التجمعات، ولا تتم حماية هذه التجمعات إلا من خلال آليات قانونية، فالقانون وحده هو القادر على منح الحصانة والحيوية لكافة أفراد هذه التجمعات، وبالتالى لا ديمقراطية دون قانون يفّعلها ويحميها بل ويطورها، ولا يمكن أن تنمو وتتطور الديمقراطية دون هذا الغطاء القانونى، وبالتالى لا يمكن أن تفّعل قيم القانون وتترسخ دولة القانون وسيادته إلا فى ظل مجتمع ديمقراطى، والاختلاف وحرية التعبير حق أصيل فى المجتمعات الديمقراطية ولها مكانها الجدير بالاحترام فى تاريخ الديمقراطية، ولكن يجب التمييز بين ذلك وبين الانتهاك القانونى بعلنيته وبغرضه السياسى، فذلك يدنس الديمقراطية ويخلخل القانون وهو ما يفضى فى النهاية إلى تبنى سياسيات الإشهار والتحريض والشائعات، وبذلك يتم خرق القانون الذى يحمى الديمقراطية ويحمى أسسها التى أول شروطها تأمين البنيان الاجتماعى وعدم إثارة البلبلة التى تضر بالصالح العام، فالقانون هو الأساس الذى يرتكز عليه أى مجتمع متحضر وعدم احترامه من جانب شخص أو جماعة، إنما يشجع الآخرين على التصرف بالمثل، ولو أنه قدر لكل فرد أن ينتقى ويختار القوانين التى عليه أن يلتزم بها لسرعان ما تفكك إطار القانون الذى نعتمد عليه جميعا. من هنا نأتى لواقع مثل الواقع المصرى الذى يواجه تحديات هائلة على كافة المستويات، بدءا من السياسى وانتهاءً بالأخلاقى، هذا الواقع الذى يموج بحالة من الحراك السياسى والمأمول منه أن يصل إلى غاية الدولة المدنية الحديثة التى تكون الديمقراطية الليبرالية هى ضميرها والقانون بقواعده وآلياته هو جسدها، وبدلا من البحث عن ابتكارات إبداعية لمواجهة هذه التحديات فى واقع ينمو حثيثا بل يحبو فى اتجاه هذه الغاية نجد أن هناك مجموعات تحاول أن تسطر دراما تراجيدية مأساوية للواقع ويكونوا هم أبطال هذه التراجيديات فى واقع لا يتحمل التراجيديا قدر احتياجه لحلول إبداعية ومشاركة فعالة فى مواجهة ما يعانيه المجتمع، ولعل ذلك السياق يجعلنا نراجع أولوياتنا كمجتمع يسعى للولوج للدولة العصرية، دولة القانون وسيادته، ودولة المؤسسات الرشيدة الكفء، ودولة النقابات المهنية متطورة الأداء، ودولة احترام الحركات الاحتجاجية التى تؤصل لقيم الحرية ولا تنقض على منجزات الحرية لصالح فئة أو طائفة وترفع شعارات جوفاء لتكدير الرأى العام وإشاعة فقدان الثقة، ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح، إن كل تلك الأمنيات بل والتحديات لا يمكن أن تتوفر وتتحقق إلا من خلال شروط الديمقراطية أو المدنية، وهى احترام القانون حامى هذه الديمقراطية ومحصنها الأول والأخير.. وأخيرا، ومع التقدير والاحترام الشديد لقرار العفو الذى صدر عن رئيس الجمهورية، يجب أولا النضال المدنى والقانونى لإلغاء عقوبات الحبس واستبدالها بعقوبات أخرى، مع تقنين وإيضاح بشكل لا التباس فيه ولا إعوجاج لمفاهيم حريات الرأى والتعبير، وذلك حتى يتسنى لكل مواطن، وليس للصحفيين فقط إبداء الرأى وأن تكون له كافة الحريات المدنية فى مجتمع عصرى وديمقراطى للتعبير عن آرائه ومعتقداته وأفكاره بما لا يخل بالتماسك الاجتماعى ولا بالبنيان الديمقراطى.. إن الكفاح المدنى والقانونى عبر الآليات الديمقراطية المتعارف عليها هو الكفيل والضمانة الوحيدة لبناء مجتمع ديمقراطى صحى وعفى ومتماسك بعيدا عن المهاترات أو المزايدات أو التجريحات والتشويهات، وحتى لا ننتظر عفوا أو رجاء أو تدخلات أجنبية أو غير ذلك من الآليات غير العصرية وغير المدنية، يجب أولاً الالتزام بالمعايير القانونية والأخلاقية واحترام قيم المهن المختلفة وتفعيل مواثيقها وشرفها وكبريائها قبل أن يسقط الجميع فى دهاليز دولة ما قبل الدولة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة