توظيف الإحصاءات والمعلومات لتصويب أخطاء دارسى التاريخ الإسلامى

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2008 09:07 م
 توظيف الإحصاءات والمعلومات لتصويب أخطاء دارسى التاريخ الإسلامى توظيف الإحصاءات والمعلومات لتصويب أخطاء دارسى التاريخ الإسلامى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"نحو تحديث دراسة التاريخ الإسلامى – مقاربات منهجية" كتاب جديد للباحث المغربى د.محمد تضغوت، وتقديم د.محمود إسماعيل، صدر مؤخرا عن دار رؤية بالقاهرة، الكتاب يعتمد على المنهج الكمى فى دراسة التاريخ وتوظيف الإحصاءات والمعلومات للكشف عن حقائق جديدة بهدف تصويب أخطاء الدارسين للتاريخ الإسلامى الذين يعملون انطلاقاً من أحكام عامة لا تستند إلى حقائق.

يرى المؤلف أنه إذا كان المؤرخ لا يمكنه الإفلات من طرح الأسئلة والأجوبة, شأنه فى ذلك شأن باقى أنواع المعارف الأخرى, فإن الشأن التاريخى يقتضى البحث فى إطار تحديد العلاقة السببية بين الفعل والفاعل بكثير من الحذر والوعى النقدى المنظم وعدم الإيمان بالبديهيات من دون مساءلة، وإطلاق الفرضيات المتسرعة.

تصور جديد للتاريخ
ليس الهدف من الكتاب، كما يقول مؤلفه، تقديم صورة مستفيضة عن شكل الكتابة التاريخية، وإنما السعى إلى شد الانتباه إلى أن التاريخ المنظم لم يعد تاريخ رواية وحكايات وطرائف أو غرق فى التفاصيل السردية للأحداث المشدودة إلى بطل أو عصر أو عقيدة أو مذهب بعينه، مضيفاً لم تعد مهنة المؤرخ تقف عند حدود التنزه فى كنوز الماضى وإحياء الذكريات, وإنما أصبحت مهنته أمام تطور المعارف وثورة المعلومات ووسائل الاتصال وعلم المناهج, تستلزم تطوير أدوات البحث وتغيير الرؤية لمحتويات وسجلات الماضى التى تختزن عدداً من الوقائع والأحداث وضعت فى التأليف حسب مدارك المصنف وأغراضه.

يرى المؤلف د.محمد تضغوت أنه من المستحيل على الباحث فى حقل التاريخ أن يفهم أنماط سلوك الناس ويحيط بوقائعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من دون الإلمام والتزود بالقدر الكافى من المعارف حول النفس الإنسانية والجوانب المركبة للتغير الاجتماعى والقوانين؛ فضلاً عن الإلمام بمبادئ علم الاجتماع والإحصاء والإنتروبولوجيا والفلسفة والاقتصاد السياسى والاجتماع السياسى وعلم اجتماع المعرفة وتكثيف العمل المنهجى التاريخى المنظم.

ويطالب د.تضغوت بتوسيع مدارك المؤرخ وتعدد مجالات انشغالاته واشتغالاته, بفعل ثقل العلوم الإنسانية, إن وجد نفسه مضطراً، تحت الضرورة العلمية للأخذ بكل الأساليب المنهجية التى يراها ضرورية، بحكم أن الظواهر التاريخية المعقدة بطبيعتها لن يتم تفكيكها وفهمها فهماً جيداً إلا بتوسيع مجال المؤرخ وتطوير أدواته المنهجية.

المنهج الإحصائى
وفى هذا الإطار يسعى المؤلف إلى اعتماد المنهج الكمى الإحصائى والتساؤل حول إمكان تفعيله فى المجال التاريخى الإسلامى، قائلاً "بإمكان البحث التاريخى المنظم أن يجد الروابط والعلاقات التى تجمع بين الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتفاعلة فى الزمان والمكان, وفهمها فهماً علمياً موضوعياً، فعلى سبيل المثال, ومن خلال دراسة واقع الأسعار والأجور ورسم المنحنيات الرابطة بين سعر القمح وتتبع تطوره فى فترة معينة, يمكن استخلاص السنوات السمان والسنوات العجاف التى كانت تؤثر فى العصور المختلفة.

ويضيف: التفات كتب التاريخ الإسلامية لأسعار الحبوب والثمار والتشديد على أهمية هذه الأغذية, ودخولها ضمن الحاجات الاستهلاكية الضرورية لمختلف الشرائح الاجتماعية, وتوضيحها أن ارتفاعها كان يؤدى تواً إلى تدهور أوضاع الطبقة المستضعفة. وهذا مؤشر هام يمكن الاستناد إليه لتحديد ظاهرة التمايز والتفاضل بين الفئات المشكلة للخريطة السكانية, كما يفيد بأن الزراعة على اختلاف أنواع محاصيلها كانت تحتل مكاناً متميزاً فى خريطة توزيع القطاعات الاقتصادية فى تاريخ البلاد الإسلامية، ومع ذلك فقد ظلت متأخرة بسبب ارتباط معظمها بالظروف الطبيعية, فضلاً عن قصور رؤية الدولة للعملية الإنتاجية, وربط اهتمامها بالبحث عن كيفية ملء الخزينة السلطانية على حساب استنزاف جهود المنتجين الفعليين.

وبالمثل فإن تأمل مقدار الأجور التى لم تغفل فى ذكرها المصادر قد تفضى إلى وضع مؤشر موضوعى لاستيعاب شكل التراتب الاجتماعى وتباين وضع الطبقات الاجتماعية, كما أن البحث فى واقع الأجور وتتبع تطورها وتفاضلها ومقارنتها بين مختلف القطاعات المنتجة أو غير المنتجة, قد يعطى صورة ألمع عن رصد وضع السكان فى الخريطة الاجتماعية السياسية.

دور علماء الآثار
وبالاعتماد على علماء الآثار الذين قاسوا المساحات التى غطتها بعض المدن الإسلامية فى العصر الوسيط, توصل المؤلف د.تضغوت إلى تخمين قريب من الواقع, يتعلق بحجم السكان و أن العالم الإسلامى عرف فى بداية العصر العباسى بزوغ ظاهرة المدن الكبرى وتفعيل حركة التمدين, عكس ما كان عليه الوضع فى أوروبا فى الفترة نفسها, كما لاحظ أن ارتفاع أسعار القمح من خلال مؤشر إحصائى, راجع إلى التداول الواسع للنقود الذهبية وارتفاع النمو السكانى وتطور حركة التمدين.

واستنتج المؤلف، من خلال رصد وارد الضرائب فى العراق أنها كانت فى تناقص مستمر بدءاً من النصف الأول من القرن التاسع الميلادى, نظراً لأسباب اقتصادية وسياسية, ففى عام 918م – على سبيل المثال – قدمت منطقة البصرة للخزينة المركزية ما قدره (121.095 دينار) فى حين تناقص هذا المبلغ سنة 1040 هـ إلى سبعين ألف دينار فقط, وهو ما يفسر لجوء الدولة إلى سلسلة من الغرامات والمصادرات والقطاعات, وغيرها من الوسائل لإيقاف نزيف الأزمة الاقتصادية وكبح جماح التدهور والشلل العام الذى ضرب الاقتصاد الإسلامى آنذاك.

وقد انعكس هذا التدهور على أحوال الشرائح الكبرى من المجتمع, حيث اشتدت حركات البدو, ونشطت حركة اللصوص والشطار من جديد, لتحتل مكاناً بارزاً فى أخبار الكتب التاريخية. وواكبها سلسلة من الكوارث التى احتلت مكانتها فى كتب التاريخ, وموازنتها مع ما أصاب الاقتصاد من تراجع وانتكاسة, بفعل تلاحق الأزمات الناجمة عن استفحال ظاهرة الإقطاع العسكرى, وما صحبه من خراب المزارع ونقص السكان وتدهور العمران.

رصد الأوبئة
يرى المؤلف أن عملية رصد الكوارث والأوبئة فى المجتمع الإسلامى، فى "العصر الوسيط" أفضل نموذج للتأمل والمعاينة, فمن خلال حشد الأرقام وتجميع الإحصاءات وتفصيلها حسب السنوات, يتضح أن الزلازل والأوبئة والمجاعات وهجوم الرياح والقحط والفيضانات التى ضربت المشرق الإسلامى فى العهد البويهى، على سبيل المثال، قد وصلت إلى خمس وخمسين كارثة "مع استثناء هجوم الجراد والصواعق والزلازل والحريق".

ويلاحظ أن معظم الكوارث كانت تنجم عن اضطراب الأحوال المناخية غير المنتظمة, المتأرجحة بين كثرة هطول الأمطار وتفاقم الجفاف, وهو ما جعل من شكل الفلاحة, فلاحة بسيطة مرتبطة بهبة الطبيعة وضعف تقنية الإنتاج, كما يلاحظ أيضاً أن معظم الكوارث كانت تتلاحق وتتفاقم فى السنوات الأخيرة من تبدل الأسر الحاكمة المقترنة عادة باندلاع الفتن والحروب, بل وبالإمكان من خلال المصادر نفسها رسم جداول وبيانات تقارن بين حركات العامة وتململ الشرائح المتدنية وسنوات الكوارث, بحيث تكون كل ظاهرة سبباً للظواهر التى تماثلها أو تلاحقها.

وبالمثل يرى المؤلف أن كتب السير والتراجم تقدم إمكانية مناسبةً لاستيعاب شكل البنيان الاجتماعى وقياس تراتبه وتناسبه مع موقع العمل والمهن والإنتاج والتبادل وتوزيع الثروة, ورصد أنواع الملكيات وحجم العقارات, والإلمام بمختلف الجوانب الرئيسية المؤثرة فى الفعل الاقتصادى.

ويطالب د.تضغوت بتقويم الذاكرة التاريخية الجماعية عن طريق مساءلة النصوص من جديد, وإعادة النظر فى المتون, وتقويم القراءة, وخلخلة طرق دراسة البناء التاريخى القائم على الانصياع للمتداول, المكرس لأسلوب التذكر والتقليد وصناعة الأفكار التى تسبق الدرس. وتحجيم مساحة الأمور المسلم بها, والانفلات من هيمنة التواريخ الرسمية التى جبلت على رصد أخبار الحروب وتفاصيل الأسر الحاكمة, والتأريخ للأحداث والوقائع الأكثر شهرة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة