لم أكن يوماً معجباً لا بالعقل ولا بالفعل بالأمريكان, ولا أتوقع خيراً من مجتمع بنى مجده على أجساد الملايين من السكان الأصليين والزنوج وبعض الأقليات الأخرى, ولا أتوقع نمواً صحيحاً للحرية فى تربة تم تجهيزها عبر أكبر عملية تصفية فكرية فى التاريخ الحديث فيما عرف بالمكارثية, والتى انتهت بالمجتمع الأمريكى إلى نسق أحادى التفكير, ناهيك عن حالة الغطرسة وتشوية الحقائق والتضليل الذى أدى إلى وعى معلّب على حد تعبير وتفسير "الأمريكى" هربرت شيللر فى كتابه "المتلاعبون بالعقول".
هذا التصور لم يعجب الكتاكيت التى تدور فى فلك الحداية الأمريكية, وروجت للحلم الأمريكى والحرية الأمريكية والرخاء والرفاهية بمجرد أن يرضى عنا رب البيت الأبيض, وحملوا إلينا رسالته وعقيدته التى تنسف كل معتقداتنا وثوابتنا, وجعلت من الحديث عن العدالة الاجتماعية زندقة, والنطق بكلمة اشتراكية كفراً بيِّناً، وأوعزوا إلينا بثوابت جديدة علينا أن نسلم بها وألا نتطرق إلى مفاهيم التحرر والتحرير, وعلينا أن نحشد قوانا من أجل الختان, ولا نرمش بعين واحدة من أجل ثمانية مليون إنسان يعيشون فى مناطق عشوائية, وتسعة ملايين عانس.
ولكن يبدو أن عقيدة الكتاكيت والحداية الأمريكية قاربت على مرحلة الشك فى بركات رب البيت الأبيض بعد الأزمة الاقتصادية التى أنتجتها الإدارة الأمريكية كنموذج لفساد سلطة الرأسمالية وغباء الإدارة، وتم تصدير نتائجها السلبية والكارثية للدول الكتاكيت, التى أصبحت تدفع ثمن علاقتها وتبعيتها للحداية الأمريكية فقراً اقتصادياً وقلقاً سياسياً وضعفاً عسكرياً باعتبارها مستهلكاً طبيعياً للفضلات الأمريكية، لأنها وحسب التصنيف الأمريكى دول عالم ثالث أى فى ذيل العالم ولا تملك حق الحرية ولا التحرر ولا التقدم، وإذا قاومت فهى إرهابية وإذا تقدمت فهى مارقة.
الأزمة الأخيرة ألقت الضوء على حقيقة الحداية وبيَّنت مدى خطورة التبعية التى رأت فيها الكتاكيت مدخلاً للتنمية والرفاهية, وهى فى الحقيقة مدخل للخراب الاقتصادى وزيادة عدد المتسولين، وكشفت فى نفس الوقت عن طبيعة توجهات الإدارة الأمريكية التى تركت العالم ومعه الطبقة المتوسطة الأمريكية يغرقون فى مستنقع لن يخرجوا منه قبل سنوات, ولم تتحرك إلا بعد غرق السادة أصحاب الشركات وكبار موظفيهم، وقدمت بذلك تعريفاً حقيقاً للرأسمالية الأمريكية, ودفعت المتابعين للقول: إن ما يجرى ليس إلا انهياراً للرأسمالية.
ما تشهده أمريكا ويعانى منه العالم حلقة من حلقات النحس الأمريكى الذى حل على العالم بقوة منذ دخول العالم العهد الأمريكى، هذا النحس مازال مرشحاً للازدياد على المستوى الاقتصادى، حيث إن الرحم الأمريكى مازال يحمل عشرات الكوارث من نفس نوعية أزمة الرهن العقارى, وقريباً ستنفجر أزمة أقساط السيارات وأقساط التعليم وأزمة الفيزا كارد, فقد اعتمد نسق الحياة فى أمريكا على سرقة موارد العالم, ورهن مستقبل المواطن الأمريكى, ودفعه للاستهلاك فوق قدراته من أجل أن يظل بقرة حلوباً للرأسمال الظالم.
الحلقة الحالية من النحس الأمريكى حلقة من مسلسل طويل من النحس الذى أصاب العالم, ويتم توزيعه حسب القرب من مصدر النحس, والذى أدى إلى تدمير حضارات بأكملها وبلدان بشعوبها مثل العراق والصومال وأفغانستان، وتحل بركته على باكستان ومصر والسعودية, وتظهر بركاته فى كل مرة يقوم بها الرئيس الأمريكى بزيارة لبلد ما, حيث تحول إلى شخص غير مرغوب فيه, يـُستقبل بالمظاهرات والرفض الجماهيرى فى كل دول العالم شرقاً وغرباً.
النحس الأمريكى الذى حط على العالم اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وسياسياً راح ضحيته الملايين، ومازال يحصد الملايين ربما يكون له إيجابية إذا كانت تكفى لكى يفهم الكتاكيت أن الحداية ما بترميش كتاكيت, وأن فاقد الشىء لا يعطيه, وأن النموذج الأمريكى ليس النموذج الذى يقتدى به فهو نموذج لم يقدم للعالم إلا الشر, وأن عباراته ليست إلا سلسلة من الأكاذيب, وأن المارينز المتخفى تحت عباءات حقوق الأقليات وأدعياء الليبرالية لن يقدموا لنا خيراً.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة