لا أستطيع أن أجزم بإجابة محددة، لماذا بكيت هذا العام وأنا أستمع فى الراديو يوم السادس من أكتوبر لأغنية شادية "مصر اليوم فى عيد"؟ ولماذا هذا العام تحديدا، فأنا أستمع لهذه الأغنية منذ ما يقرب من 30 عاماً، الأغرب هو ذلك الشعور المبهم الذى انتابنى عندما كان صوت عبد الحليم يردد بـ"الأحضان"، شعور يمزج ما بين الاستمتاع بأغنية جميلة، والإحساس بالبعد عن الوطن الذى غنى له عبد الحليم، ومحاولات لتذكير نفسى بأنه هو نفسه وطنى الذى أعيش فيه، ثم جاءت أغنية شادية لتدفعنى للبكاء!
ربما كانت لحظة يأس عارمة نتيجة كافة الإحباطات التى نعيشها منذ ستة وعشرين عاماً، تفاعلت مع إحساس قديم بالفخر والانتصار ينازع كى يظل طافياً وسط بركة الهزائم اليومية التى يتعرض لها كافة المصريين.
لكن الأكيد فى كل هذه المشاعر المتناقضة هو صدق من كتبوا أغانى النصر وإخلاصهم للحظة التى عاشوها، وفى تعبيرهم عنها، وربما هذا ما يفسر انبهار ابنتى ذات السبعة أعوام بأغنية "راجعين"، وقدرتها على حفظها وترديدها رغم صعوبتها.
هذا الصدق والإخلاص للحظة هو ما نفتقده اليوم عندما نصنع أغانى للوطن، فتأتى الأغانى بعيدة عنا لا يمكننا التفاعل معها، ولهذا تظل مشاعر الانتماء مرتبطة داخلنا بأغنيات قديمة للحظات لم نحضرها، وهكذا تختلط مشاعرنا وتتناقض تجاهها.
فنحن أبناء جيل ربما قرأ تحليلات عدة لهزيمة 67، ودرس فى التاريخ سطراً عن انتصار سياسى فى 56، وسئم طنطنات الضربة الجوية فى 73، وبدأ بشغف يبحث خارج وسائل الإعلام الرسمية عن مفردات أخرى للانتصار فى 73، عله يجد مبرراً يفسر، لماذا عليه أن يفتخر؟ وعندما يحاول ذلك يدفعه الواقع لرفض إحساسه بالفخر، والاستسلام للرفض وفقط.
وهو ما قد يدفعنا لعدم الاعتراف بالفنون التى سجلت الفرحة بالنصر ومن أهمها أغنيات 73 ، والسعى لنفيها، ساعد على ذلك أن تحولت المناسبة الشعبية الوطنية إلى فرصة سائغة كى يقدم الفنانون وصلات من النفاق لشخص الرئيس، خصوصاً وأنه منذ نهايات عصر السادات عزفت السلطة بشكل أو بآخر عن الاهتمام بالفن والفنانين، هذا العزوف الذى تحول اليوم إلى عدم التفات لهم من الأساس.
وبالتالى تصبح المفارقة المثيرة فى أن يغنى متهرب من أداء الخدمة العسكرية فى احتفالات القوات المسلحة بالنصر هى الواقع الذى نراه، كما حدث العام الماضى عندما غنى تامر حسنى وهيثم شاكر من ألحان صلاح الشرنوبى، فى احتفالات القوات المسلحة والتى أقيمت بالإسماعيلية، وحضرها رئيس الجمهورية ورجال الجيش، وهو ليس سراً أن كل من تامر وهيثم قد اشتركا من قبل فى جريمة التهرب من أداء الواجب الوطنى، وقضيا عقوبتهما فى السجن.
ورغم كل هذا فأحياناً ما يستدعى الوجدان من ذاكرته مشاعر قديمة تحمل حيرة آبائنا وارتباكهم تجاه النصر، ومن بعده كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وهى أيضا مشاعر تتحكم فيها الأغانى، كما حدث معى وأنا أستمع لـ"مصر اليوم فى عيد" عام 79 لأول مرة، فتُحيلنى لردود فعل أبى رحمه الله، التى كانت تتأرجح ما بين رغبته فى الفرحة بالسلام ورفضه لشروطه. وبين عشقه لصوت شادية وملاحظاته على طريقة أدائها للأغنية الوطنية.. ربما لكل ذلك بكيت هذا العام وأنا أستمع إليها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة