هل يحق لنا أن نقول إن جائزة نوبل للآداب ذهبت هذا العام إلى فرنسى؟ الجواب غالبا سيكون: لا، فجان مارى جوستاف لوكليزيو هو القائل عن اللغة الفرنسية إنها لغة "لقيطة" وكان حلم حياته أن يكتب باللغة الإنجليزية، لكنه سرعان ما اكتشف أنه كمن يستغيث من الرمضاء بالنار، فلجأ إلى الفرنسية ليكتب بها معترضاً على احتلال إنجلترا لجزر موريسيوش، تلك الجزر التى هاجر إليها أجداده، ومثلت له عشقا خاصا، وأججت بداخله الولع بالبحر والسفر والترحال، فحلم أن يكون بحاراً يجوب العالم كله واتخذ من الرحلة سبيلا لفهم العالم والتعايش معه والوصول إلى جوهره، ولذلك ليس غريبا أن تكون أول نصوصه الأدبية عن البحر، بعد رحلة قطعها من أقصى الشمال ـ مدينة بوردو ـ إلى أقصى الجنوب ـ نيجيريا ـ حيث يقيم والده ويعمل طبيبا لدى الجيش الإنجليزى الاستعمارى، وهذه الرحلة بالتحديد هى ما أثرت فيه بشكل كبير وجعلته يكره الاستعمار أياً كان وكيف ما كان، ونتيجة هذا الكره كتب "نجمة تائهة" التى يدين فيها الاحتلال الإسرائيلى، باحثاً عن الإنسان فى "المخيم".
مثلما فعل الشاعر الفرنسى الشهير رامبو، مشى لوكليزيو كالصوفى العاشق فى طريق المعرفة، والرحلة هى بطله الأول ومعلمه الأول أيضا، من خلال الرحلة اكتشف حقيقه ما توصل إليه مواطنه يوجين يونيسكو أحد أكبر مؤسسى مسرح العبث فى فرنسا، وأيقن من عبثية اللغة وعدم جداوها، واكتشف تفاهة الحدود السياسية والجغرافية بين البشر، فتعامل مع العالم وكأنه ملك خاص له، لا تفزعه المسافة ولا يؤرقه الترحال، من فرنسا إلى المغرب ومن المغرب إلى المكسيك ومن المكسيك إلى الأردن، ومن الأردن إلى موريشيوس، ومن موريسيوش إلى تاهيتى، ومن تاهيتى إلى مدغشقر ثم طوكيو ثم موسكو ثم تايلاند.
سفره الدائم ورحلاته التى لم تنقطع جعلته يتوغل أكثر فى عمق اللغة ليكتشف لغته الخاصة، وأسلوبه المميز، ليقترب فى سرده من روح الشعر، وشفافية المعانى، فاللغة عند لوكليزيو إيقاع وموسيقى، ربما لم يرد أن يوصل كلاماً، وإنما مراده الأول هو توصيل الإحساس، والسفر الدائم أيضاً جعله لا يقيم وزناً للتقاليد الفنية، والفوارق الصارمة بين الأجناس الأدبية، وفى ختام روايته "كتاب المهارب" يقول: "الحياة الحقيقية لا نهاية لها، الكتب الحقيقية لا نهاية لها أيضاً" ولذلك ظل لوكلينزيو سابحاً فى الانهاية.
فى أحد حواراته قال: 'أنا ابن جزيرة، واحد من شاطئ بحرى ينظر إلى المراكب تعبر وهو يجر قدميه فى الموانئ مثل رجل فى مدينة لكنه ليس مدنياً وليس ابن حى معين .. بل من كل المدن ومن كل الاحياء"، ولنا الآن أن نتخيل شعور ابن الجزيرة هذا، ترى أى سفينة حلم بأن يقفز عليها؟ وأى بلد حلم بأن يلتجأ إليها؟ لوكليزيو ابن الجزيرة السحرية لا يحب أن تطأ قدمه الأرض، إلا لترتفع من جديد، متحرراً من كل قيوده الاجتماعية والسياسية، ولو كان عربياً لقلنا إنه "يَعرف الرجال بالحق ولا يَعرف الحق بالرجال" فلم يتورع فى الإدلاء بشهادته عن دعارة الأطفال فى تايلاند لصحيفة ليفاجارو، وكان أثر ذلك أن تم طرده من المكسيك التى كان يعشقها ويتعلم لغة أهلها ويتعرف على تراثها وقال عن تجربته فى المكسيك "إنها صدمة حسية كبيرة، صعبة، كان الجو حاراً، وكان على أن أمشى مسافات طويلة على الأقدام، كان على أن أصبح خشناً، صلباً. منذ تلك اللحظة، اللحظة التى لامست فيها هذا العالم لم أعد كائناً عقلياً، أثرت هذه اللاعقلية فيما بعد فى كلّ كتبى". ومن خلال هذه الرحلة ترجم نصوص المكسيك القديمة مثل "نبوءات شيلام بالام" و"علاقة ميشوكان" و"الحلم المكسيكى" و"أغانى العيد" و"ديغو وفريدا"، ولذلك ليس غريباً أن تصفه لجنة نوبل بأنه كاتب المغامرات، وكاتب الأطفال والمقالات، و"كاتب الانطلاقات الجديدة والمغامرة الشعرية والنشوة الحسية ومستكشف بشرية ما وراء الحضارة السائدة".
علاقة لوكليزيو بالعرب لا تقف عند رأيه الواضح فى القضية الفلسطينية، وإدانته للاحتلال الإسرائيلى، فمثلما صدمته المكسيك بحرارة جوها وخشونة أرضها، أدهشته الصحراء باتساعها وضخامتها وصفائها، فكتب عن مدينة البتراء الأردنية، مستلهماً روح المكان كما لو كان يعيش زمن من بنوها، وفى كتابه "سمكة من ذهب" استلهم من بطلته المغربية "ليلى" الروح العربية والنموذج الخيالى للمرأة، ومشى مستمتعا بشدو أم كلثوم، وبفيروز وهى تغنى: "يا قدس يا مدينة الصلاة". يتكلم بالفرنسية حيناً وبالعربية حينا آخر، تشعر به وكأنه "ابن حتتنا" الذى يحب ابنة الجيران، ويستمع إلى حكايات الجدة، التى غرست فيه كل هذه الطاقة الهائلة على السرد.
إذاعة خبر فوز "لوكليزيو" بنوبل 2008 جاءت برداً وسلاماً على السامعين، وبدأت الجائزة وكأنها تعقد تصالحاً مع العالم، وقبل إعلان الجائزة بأيام تمنى مثقفو العالم أن تذهب إليه حينما قالت مسئولة القسم الثقافى فى إحدى الجرائد السويدية إنها تعتقد أن لوكليزيو هو الفائز، لأنه حسب تصريح ناشر كبير "يمزج ما بين عدة ثقافات فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا" ومثلما تصالحت الأكاديمية السويدية مع أدباء فرنسا بعد قطيعة دامت 23 عاماً تصالحت أيضاً مع الثقافات العالمية التى أحبها لوكليزيو، وكذلك تصالحت مع ألفريد نوبل مانح الجائزة ومبتكرها، إذ أوردت ضمن حيثيات لجنة التحكيم أن الفائز استحق الجائزة لكتاباته الإبداعية ولمقالاته ولكتابته للطفل، وبهذا يتحقق نص وصية "نوبل" التى أجاز فيها حصول الكتاب والصحفيين على الجائزة، فكم عصفور ضربته الأكاديمية بـ"حجر لوكليزيو" الجميل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة