تختلف الأديان فى عقائدها.. ولكنها تجابه كلها، دون استثناء جدلية استغلال الدين فى التنافس السياسى.. لقد تحول الدين سياسياً وعملياً، وبسبب فقدان الضوابط فى بعض المجتمعات، خصوصاً التى تتمتع بدرجة من الديمقراطية- كحالة مصر- إلى مجال سائب، يخترقه رجال الدين ورجال السياسية الطامعون فى السلطة والباحثون عن شرعية ذات مصدر إلهى، وتشمل مسألة استغلال الدين بواسطة التحايل المصلحى والسياسى كل الأديان، ما دامت السياسة سياسة والبشر يتنافسون سياسياً، ويمارس رجال الدين مناورات تهدف إلى استغلال القدرة النزاعية للسياسة فى أحوال المجتمع، وإصدار الفتاوى وإبداء الآراء فى كل ما هو دنيوى.. إلخ.
والدولة العصرية المتمايزة الوظائف، بما فيها الشئون الدينية مهما كانت واسعة وشاملة، تفترض أمرين مهمين، أولهما: نمط ديمقراطى ليس على مستوى الدولة فقط، بل فى الحياة الاجتماعية، حيث يؤدى الإقرار بتمايز الاختصاصات إلى تنظيم علاقة انسجام أو علاقة مقننة بين الدين والسياسة، وثانيهما ضرورة توافر مجال محايد دينياً، شريطة عدم إخلاله بالنظام العام أو بعصرية ومدنية الدولة.
والدولة لم توجد منذ أزل، أى أنهما ليست بالمخلوق الطبيعى الذى ليس للإنسان فيه دخل ولا عليه سلطان، ولا هى كذلك نتيجة الصدفة رمى بها إلينا تصادم رياح وتيارات عاصفة كانت السماء مسرحاً لها، ولا هى انعكاس لواقع العقل المجرد.
إنها مدلول اجتماعى وحضارى، بمعنى أن الدولة مولود المجتمع عند درجة من درجات تطوره، وما بروزها إلا حجة ودليل وبرهان على دخول المجتمع طور الحضارة فى معناها الاجتماعى الواسع، فهى جهاز حكم أى مجموعة مؤسسات تسطر نمط الحياة فى مجتمع محدد، وفى قالب اختيارات اقتصادية وسياسية وثقافية شاملة.
ولكن عندما تتسم الدولة بالسيولة وعدم القدرة على التحكم فى مؤسساتها.. التى من المفترض، أنها حامية عصرية ومدنية هذه الدولة، فإن ذلك هو الحظر الكبير.. ويفضى ذلك إلى الفوضى، وتصبح الدولة بدلاً من حامية للمدنية والمنظمة للحراكات السياسية والاجتماعية، نجدها وعاءً هشاً سريع الانهيار، وتكون محاولات رجال الدين للانقضاض على هذه المدنية قابلة للتحقق، مستغلين الوضع المتردى على كافة الأصعدة ولكل فئات المجتمع.
فهناك محاولات من بعض قادة الشيوخ - لا يدركون حتى الدين الذين يزعمون أنهم حملة لوائه- فيمتنعون عن الاجتهاد فيه، مما يؤدى إلى فقر المجتمع وإصابته بالتأخر والتخلف، لأنهم يحاولون عبثاً تصدير توجهاتهم العقائدية والفردية، انطلاقاً من تصوراتهم، بأنهم قادرين على حل معضلات المجتمع بتصورات عتيقة يعتقدون، أنها صالحة لكل زمان ومكان. ويتصور هؤلاء الشيوخ، أن لهم مظهر لائق يميزهم عن بقية الناس، ويضمن لهم الرهبة فى نفوس العامة من الناس الذين يمزجون بينهم وبين الدين، وقد يتحقق ذلك بفعل الجهل المتفشى وعبر الشعارات الجوفاء، ونتيجة للسلطة المعنوية لهؤلاء القادة من الشيوخ فى بعض الفترات، ليستفيد هؤلاء القادة الظلاميون من ذلك الوضع عبر استهزائهم بالعقل، وانقضاضهم على المدنية بل وعلى المواطنين..
فها هو زغلول النجار صاحب الإعجاز العلمى للقرآن يشيع مقتل وفاء قسطنطين فى دير وادى النطرون، وذلك بعد تصريحاته وفتاواه المتتالية والتى كان آخرها أنه يؤيد وصول الإسلاميين إلى الحكم سواء الإخوان أو غير الإخوان، معتبراً أن الأحوال لن تنصلح طالما لم يصل الإسلاميين إلى الحكم، وبعد تصريحاته عن تزوير وتحريف الكتاب المقدس، وها هو البابا شنودة يرد على ذلك بقراره إغلاق أديرة وادى النطرون حتى 14 أكتوبر بعد هذه الشائعة، وتصريح أحد المصادر الكنسية ونقلته إحدى الصحف المصرية، بأن هناك أخباراً موثقة عن هجوم على الأديرة خلال الأيام المقبلة، وبدلاً من الرد على اتهامات السيد النجار الذى اعتاد أن يدق مسامير التكفير والعبث فى جسد هذه الأمة، نجد الكنيسة أيضاً تقع فى فخ هذه الإشاعة، ولم تختر الطريق الصواب بإطلاق صراح وفاء قسطنطين للتعبير عن نفسها وإغلاق كل الأفواه الكاذبة، ومثلما تقول الحكمة الشهيرة "إن العنف هو صوت اختناق العقل فى الحنجرة". ولكن يبدو أننا أمة كتب عليها إضعاف ظهرها وزيادة أحمالها.
فرغم الخطوات الوئيدة للوصول إلى دولة المدنية ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح والولوج لعصر المدنية والحداثة، والتواصل مع منجزات الحضارات الراقية التى أرست معايير العقل والتسامح، وفعلت من روح الابتكار والمبادرة واحترام حقوق الإنسان على كافة الأصعدة، نجد مازال فى جوف أرضنا جحافل من الماضوية وأقدام تخرج متكدسة تدوس على المدنية بعنف وبلا رحمة وترسى ثقافات حلقات الذكر الفاشية.
فهل آن الأوان أن تعى الدولة بدورها، وأن تمارس شرعيتها الحقيقية فى تقليص أدوار القادة الظلاميين الذين يشطرون الوطن وينقضون على مدنية مصر؟!. أعتقد أنه قد آن الأوان.. وأعتقد أن الدولة تقاس قوتها بمدى استطاعتها السيطرة على خفافيش الظلام، وأعتقد أيضاً أن هيبة الدولة إنما تقاس بقدرتها على فرض احترام وجودها، وذلك بتقليص والسيطرة على مثل هذه التجاوزات التى تكون أولى ضحاياها هى الدولة نفسها.