محمد حبوشه

"روزنا".. دراما حلبية تلامس أطراف الوجع السورى

الجمعة، 13 يوليو 2018 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لأنها نوع من الدراما الواقعية الحقيقية كما ينبغى، كان لابد أن تكون الشاهد الحى على ما خلفته الحرب من دمار وخراب وتصدع فى العلاقات الاجتماعية فى عاصمة الشمال السورى "حلب"، التى تعد أقدم مدينة فى العالم، ولأنها مرت بحضارات عدة مثل "الحثية  والآرامية  والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية"، كان لابد لتلك الدراما أن ترصد ذاك التمزق والانهيار الذى طال الكثير من النفوس، وكشف هشاشة نفوس بعض من يتاجرون بآلام الناس ومصائرهم.
 
 ربما كانت هى مفرزات الحروب فى غير مكان من العالم، ولكنها فى بلادنا كانت أشد وأقسى، هذا ما رصده المسلسل السورى "روزنا" من تأليف وسيناريو "جورج عربجى"، ومن إخراج "عارف الطويل"، ويضم عدداً من النجوم "بسام كوسا، جيانا عيد، ميلاد يوسف، ندين تحسين بيك، روعة السعدى، أندريه سكاف"، وغيرهم من نجوم الدراما، والذى يحكى قصة عائلة من "حلب"، وتتألف من الوالدين وثلاثة أبناء، وربما هى حكاية كل عائلة سورية، عانت ماعانته من تبعات الحرب، لكنها أبت إلا أن تصمد ولم تغادر الوطن، إيمانا منها بوطنها وبالنصر الذى سيتحقق على أيدى الجيش العربى السورى.‏‏
 
العمل الذى حمل عنوان "روزنا"، وهى اسم لأغنية تراثية شهيرة سبق وغناها كل من العملاقين "فيروز وصباح فخرى"، ولهذه التسمية أكثر من رواية إحداها تقول: إن "روزنا" اسم السفينة التى أرسلها العثمانيون أيام حكمهم لبلاد الشام إلى بيروت وتحمل مواد غذائية متنوعة ليتم بيعها بسعر رخيص والمضاربة على تجار بيروت، ما أدى إلى كساد بضائعهم، لكن تجار حلب اشتروا تلك البضائع وأنقذوهم من الإفلاس، وربطا بدلالات هذا الاسم فإن المسلسل يرصد مجريات الأحداث ويستقرئ ما يهدف له، خصوصاً أن مخرجه "عارف الطويل" استثمر الكثير من المشاهد الحقيقية فى تجسيد حجم الدمار الذى تعرضت له مدينة "حلب" على مدار السنوات الماضية قبل تحريرها، ولحظات الترقب التى عاشها سكان حلب.
 
 لذا يأتى المسلسل كهدية للجمهور الحلبى، بمناسبة تحريرها وانتصار الجيش فيها ودحر الإرهاب، ويأتى فى الوقت ذاته فى إطار رسالة وطنية موجهة للعالم عن صمود الشعب السورى فى حلب ومقاومتهم وإصرارهم على البقاء فى هذه المدينة، رغم قسوة الحرب والدمار الذى لحق بها، ويعد هذا العمل عودة إلى الدراما الحلبية الرائدة التى قدمت أعمالاً خالدة مثل "خان الحرير- سيرة آل جلالى - كوم الحجر – الثريا - باب الحديد" وهو أول عمل يصور فى مدينة "أبى فراس الحمدانى" بعدما حررها الجيش العربى السورى من دنس الإرهاب، كما أنه أيضاً أول عمل يستخدم اللغة الأرمينية، على الرغم من أنها كانت عبر حوار صغير، ولكن ذلك يرمز إلى أننا لا نستطيع تجاهل الأرمن الذين يشكلون جزءاً من نسيج المجتمع السورى الموجود بقوة فى مدينة حلب.
لاشك أن "روزنا"، وإن رصد ما حدث فى مدينة "حلب" تحديداً وما حل بسكانها، فإنه فى واقع الأمر يحكى قصة الغالبية العظمى من الناس فى بقاع أخرى من سوريا، لأن يد الإرهاب امتدت لتشمل مساحات كبيرة من البلاد، ودفعت ثمن هذه الحرب المدمرة عائلات لا يمكن أن تحصى، وهذا ما أراد المسلسل أن يحدثنا عنه من خلال أحداثه التى تشعبت فى أكثر من قصة وأكثر من عائلة تعرضت لنفس الظروف القاسية، كما يرصد أيضاً تلك المفارقات التى ظهرت فى العلاقات الاجتماعية، حيث طفت على السطح جماعات تاجرت بآلام الناس ومصائبها واستغلت حاجاتهم، وتمثل ذلك فى جشع التجار وانتهازية بعض النفوس المريضة فى استثمار الحرب لزيادة أرباحها، بعيداً عن القيم الإنسانية التى لطالما كنا نفاخر بها، وكأن الحرب تعيد صياغة البشر من جديد، ليتحول البعض إلى وحوش آدمية تجد فى الحرب فرصة لاقتناص الظروف لمصالحها الخاصة، لا يردعها خلق أو دين أو عقل أو منطق.
 
وعلى الرغم مما حققه المسلسل من متابعة جماهيرية معقولة فى زحمة الدراما الرمضانية الكثيفة، بسبب الشوق للأعمال الدرامية باللهجة الحلبية، ووجود ممثلين كبار أمثال "بسام كوسا- جيانا عيد"، إلا أنه بدت لى بعض الملاحظات النقدية التى تمثل خللاً جوهرياً فى تركيبة بعض الشخصيات من جانب المؤلف، وأيضاً تنفيذ بعض المشاهد التى تمت على عجل من جانب المخرج، خصوصاً تلك المشاهد التى تؤدى دور الأم فيها الفنانة "جيانا عيد"، إلا أن "عيد" نجحت فى استفزاز المشاهد من خلال إبراز تسلطها ومرضها بحب ابنها، حيث كانت تحاول طوال الوقت حمايته حتى من ظله، ومن ثم كانت المحرك الأساسى للأحداث الكبرى، بل إنها تتحكم فى أغلب خيوط اللعبة حتى لو كانت خارج إطار الصورة، وهنالك ملاحظة أخرى تؤخذ أيضا على المؤلف حيث وقع فى اللامنطقية، والأذى غير المبرر الذى قد يدفع أم لمحاربة حبيبة ابنها بشكل أشبه بعصابات المافيا، وكان من المفترض تقديم العلاقة بين الأم والابن بشكل أكثر واقعية بحيث تتناسب حتى مع واقعية قصة العائلة الحلبية النازحة من "حلب" إلى "دمشق".
 
 صحيح أن شخصية الأم المتسلطة موجودة فى كثير من أعمالنا الدرامية القديمة والمعاصرة، ولكن من وجهة نظرى النقدية الخاصة كان لابد من كتابتها بشكل حقيقى وأكثر واقعية حتى تصل إلى الجمهور بعيداً عن المبالغة غير المنطقية، منها على سبيل المثال وضمن المشاهد المستفزة التى توقفت أمامها كثيرا، مشهد ذهاب "وفا" الذى جسده "بسام كوسا" وابنته"رزان" التى قامت بدورها"هبة زهرة" إلى بيت أم جود "جيانا عيد" حيث استقبلتهم الخادمة، وحضّرت لهما وليمه تكفى لعشرة أشخاص، بينما خاطبت "أم جود" ضيفيها من خلال جهاز صوت موجود داخل الفيلا الفخمة مع مشاهد تلفزيونية للشخصية الكرتونية "النمر الوردي" بعد أجبرت الظروف"وفا" على ارتداء ملابس هذه الشخصية لتسلية الأطفال فى إحدى الحدائق، وما يبدو مستفزا أكثر فى هذا المشهد الذى أن ذلك "النمر الوردي" يبحث فى القمامة عن طعام فى إشارة صارخة للحط من شأنه أمام ابنته، ما استفز ضيفيها، ودفعهما للخروج من البيت، وربما يكون هذا المشهد مقبولاً فى نوع آخر من الدراما، لكنه هنا لا يتناسب مع واقعية العمل، حيث ظهر ساذجاً، وغير مقنع وأقل تأثيرا، فضلا عن إبرازه لسلبية السيناريو الذى شابه أيضا بعض المشاهد التى تدعو للملل، مع إنه كان بالإمكان علاجها عن طريق المونتاج بسهولة، وأخص بالذكر هنا مشاهد الفنان "أندريه سكاف" التى اتسمت بعدم المنطقية وكانت خارج السياق فى معظمها، الأمر الذى جعلها مملة للغاية على الرغم من كونها تحمل فلسفة تعبر عن المرارة والألم.
 
على أية حال لا يمكن لعاقل أن ينكر جهد الأداء الاحترافى للممثلين وعلى رأسهم المبدعين الكبيرين "بسام كوسا وجيانا عيد" فى ذهابهما نحو مناطق من الإحساس الذى عبر بالضرورة عن مرارة الحرب وأثرها على نفوس السوريين خلال تلك السنوات السبع العجاف من عمر وطن تمزقت أشلاؤه على صخرة الخلافات المفتعلة والانقسمات الحادة التى أودت بحياة آلاف الأبرياء، فلقد بدت براعة "كوسا" فى تجسيد شخصية "وفا" على المستوى الخارجى والداخلى للشخصية، حيث ظهر فى صورة الممثل المفكر الذى ينشغل تفكيره المستمر دائما فى إيجاد شكل مناسب للاداء التمثيلي، على عكس أولئك الممثلين الذين لايدركون إمكانياتهم جيدا، الأمر الذى يجعلهم يخوضون وينغمسون فى أنماط أداءات لا تتناسب وقدراتهم، ولكن الذى يجعل للاداء قيمة جمالية تلك القدرة الذهنية والفكرية الواعية لدى الممثل والتى تؤهله لمعرفة كيفية بناء الشخصية إضافة الى قدرته على الأداء، تماما كما فعل بسام كوسا فى وصوله إلى حالة من الصدق الفنى وإثبات أن التمثيل محاولة جمالية لاستعادة حيوات سابقة تختلف على مستوى المكان والزمان ولكنها تتشابه، وقد تتطابق على مستوى الإحساس والأداء كما بدا لنا فى حالة "وفا" التى كانت تتأرجح بين اجترار الأسى والحزن على حاله فى "دمشق" وبين الحنين إلى الماضى وحلم العودة لبيته القديم فى "حلب" بعد ترميمه، تلك الثنائية قدمها "كوسة" فى جدلية تنم عن قدرة تمثيلية مغايرة.
أما "جيانا عيد" فقد أجادت "فن الإلقاء" عن كثب، وذلك باعتباره عاملا مهما فى أدائها، وهو جزء لا يتجزأ من فن التمثيل بالطبع، بل إنه أحد أدواته الفنية, فالهدف الرئيسى الذى يصبوا إليه الممثل من خلال وسائله الفنية وخاصةً "الإلقاء" هو أن يولد القناعة لدى الجمهور بأبعاد الشخصية التى يجسدها، وبالأقوال والمشاعر التى تقدمها تلك الشخصية، فليست مهمة الفنان أن يعرض مجرد الحياة الخارجية للشخصية التى يؤديها، بل لابد أن يتلائم بين سجاياه الإنسانية وبين حياة هذا الشخص الآخر, وأن يصب فيها كلها من روحه هو نفسه, وهو ما فعلته "جيانا" ببراعة وإتقان طوال الأحداث، كما ظهر فى تقلب مشاعرها بين حنين الأم وقسوتها، ولقد عبرت بصدق من خلال حركاتها وإيماءاتهاعن حالة الاضطراب النفسى التى كانت تعانى منها "أم جود"، وذلك باستعراضها جيد لأبعاد تلك الشخصية الطبيعية والنفسية والاجتماعية وصفاتها بالسلوك والتصرفات وطريقة الكلام, ومن ثم كان لها التأثير المباشر على المشاهدين على قدر سلوكياتها الشيطانية.
 
وعلى درب الأداء الجيد يأتى "عامر على" كواحد من المجتهدين فى هذا المسلسل بشخصية "جود" التى قدمها بنعومة وعذوبة، حيث امتلك منذ اللحظة الأولى مفاتيح الشخصيته ووضعها على وتر مشدود، وهو نوع من التركيز الذى يعد شيئًا مهما للممثل، فيجب أن يكون الممثل قادرًا على زج نفسه فى مواقف خيالية لحجب جميع المؤثرات الخارجية عنه، موهمًا نفسه بأنه لا يمثل بل يقوم بدور حقيقي، وهو ما أبداه "عامر" على مستوى الأداء بالجسم والصوت، بطريقة مرنة مطواعة معبرة فى عرضه مواقف عديدة ومتنوعة، وشيئا من هذا أيضا فى أداء "ميلاد يوسف" والذى اعتمد - فيما يبدو - على الملاحظة والخيال والإلمام بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية التى مكنته من القيام بدوره على نحو جيد، حيث بدأ على مهل حتى تسنى لهم أن يكسب دوره قوة وتشويقًا تمشيًا مع متطلبات النص المكتوب بسلاسة ودون تشنج أو عناء ينال من أدائه الذى بدا طيفا مريحا على أجواء الأحداث المشحونة بالغضب.
 
النقطة الإيجابية الجديرة بالاحترام هى أن العمل حمل الكثير من الايجابية ولم يكن سوداويا بالمطلق، ولفت النظر إلى أن الحرب التى تدور رحاها فى أى بلد يبقى هناك تجار حروب يصعدون لقمة الثراء، وأثرياء يصبحون فى القاع، وهذا ما جرى مع بطلى العمل "وفا" بفقره المفاجىء و" فرح " التى كانت فقيرة لا تمتلك شيئا، وفجأة أصبحت ثرية تنعم بالثراء الذى كان يعيشه الكثير من أهالى حلب وافتقدوه، وفى النهاية يبقى هذا الوطن البهى " سوريا " تصفو بسماواته سحب الإبداع، على الرغم من تكاثف الدخان الأسود الذى لا ينفك عن نبش أوجاعنا وأحزاننا الساكنة فى بئر الحواس, ويبقى هؤلاء المبدعون السوريون مثل يمام الجامع الكبير, يلتقطون الأفراح "حبة .. حبة" بانتظار أن تشرق شمس جديدة تعيد الدفء لأبناء هذا الوطن الذى تكالبت عليه كل الأمم، وهكذا هم السوريون يبقون على قيد الحب, كى يدرؤوا عن أرواحهم نار الحرب العتية عبر محاولات إبداعية تقاوم عواصف وأنواء هذا الزمن العربى المتخاذل ! .









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة