ليس مهمًّا أن تكون صاحبَ الرصاصة الأُولى؛ بقدرِ ما أن تظلَّ قادرًا على الإفلات من الرصاصة الأخيرة. تقولُ الاستراتيجية وعلوم العسكرية إنَّ المُبادأة قد تلعبُ دورًا حاسمًا فى الحروب.
سارت الأمورُ على الجبهة اللبنانية لشهورٍ فيما يُشبه حربَ الأعصاب؛ لكنها منذ اغتيال أرفع القيادات العسكرية لحزب الله فى ضاحية بيروت الجنوبية، تحوَّلت حربًا كاملةَ الأوصاف.
مأساةُ سنةٍ كاملةٍ فى غزَّة، لم تتجاوز بضعَ دقائق فى المُلاكمة الكلامية بين ترامب وكامالا هاريس. فالمُناظرة الأُولى، وربما الأخيرة أيضًا، بين المُرشَّحَيْن للانتخابات الرئاسية، أكَّدت البديهيات التى يستسهلُ البعضُ الانصرافَ عنها.
تتناسلُ الحوادث من بعضِها؛ أَوَعَينا لذلك أم جهلناه. وأثرُ الفراشة الذى قد يخلقُ عاصفةً من رَفَّة جناح، يعملُ فى السياسة والتاريخ بالكيفيَّة نفسِها. يُمكن الإيغالُ كثيرًا فى مُقدِّمات الحرب العالمية الأُولى
لا قيمةَ للزمن خارج الذاكرة، إذ يفقدُ الحاضرُ معناه لو تبدَّد الماضى من قُعور الجماجم. وعلى طول الصراع العربى مع إسرائيل، يبدو أنَّ الصهاينةَ تعرَّفوا علينا بعُمقٍ.
ستكون غزَّة مُجرَّد تفصيلةٍ صغيرة بين محاور النقاش. وعندما يلتقى الرئيس السابق والمُرشَّح الجمهورى دونالد ترامب، مع منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، فى مُناظرتهما الرئاسية الأولى غدًا.
لا صفقةَ فى المدى المنظور، إذ على ما يبدو أن نتنياهو حزمَ أمرَه بشأن استمرار الحرب حتى يتصاعدَ الدخانُ الأبيض من مداخن واشنطن، وتُعرَفَ هُويَّةُ الرئيس المُقبل بما تترتَّبُ عليها من التزامات.
إن أثمرت جولةُ التفاوض الجارية؛ فسيكونُ المُحرِّك لذلك تصاعد ضغوط الشارع على حكومة نتنياهو. والساعاتُ الأخيرةُ شهدت تطويرًا للاحتجاج حجمًا ونوعًا، وإكسابَه طابعًا مُؤسَّسيًّا تبدو فيه الدولة مُشتبكةً مع نفسها.
سِتُّ جُثثٍ جديدة عثرَ عليها الاحتلالُ فى واحدٍ من أنفاق غزَّة. لم يعُد أحدٌ فى إسرائيل يتوقَّعُ أن يعودَ الأسرى أحياء؛ بعدما قطع نتنياهو كلَّ الطرق على رجوعهم فى صفقةٍ تُغلِّبُ العقلَ على الجنون.
نام الفلسطينيون على وجيعةٍ واستيقظوا على فاجعة. لم تكُن الأحوالُ مثاليَّةً قبل «طوفان الأقصى»؛ لكنها صارت مأساويَّةً بعده. يعرفُ الاحتلالُ العدالةَ فى مسألةٍ واحدة؛ أن يُنزِلَ بطشَه على رؤوس الجميع بالتساوى،
مثلما كان «قميص عثمان» حجَّةَ الأُمويِّين لانتزاع السُّلطة فى الدولة العربية الناشئة حديثًا، اتُّخِذَت مظلَمَةُ الحسين وسيلةً لتأبيد صراع الهيمنة على الجغرافيا والاعتقاد. كان الفرزُ فى الأُولى قبائليًّا تحت عباءةٍ دينية
أضعُ نفسى أحيانًا فى مَوضع حماس؛ فأُشفق عليها ممَّا آلت إليه أحوالٌها بعد كلِّ الشهور الماضية. النجاحُ الأكبر فى سيرتها تحول لنكبةٍ كُبرى، وما اغتبطت به فى «طوفان الأقصى».
أطلق حزبُ الله عشرات الصواريخ والمُسيَّرات باتّجاه إسرائيل، ثمَّ أعلن سريعًا انتهاء المرحلة الأُولى من ثأره لاغتيال قائده العسكرى فؤاد شكر فى ضاحية بيروت الجنوبية.
أوشك أن ينقضى شهرٌ كاملٌ على اغتيال إسماعيل هنيّة فى طهران، وفؤاد شكر فى معقل حزب الله بالضاحية الجنوبية لبيروت؛ لا وقعَ الثأرُ الذى أنفق فيه محورُ المُمانعة كلامًا كثيرًا.
بعضُ القضايا يكون ظاهرُها بسيطًا، وجوهرُها مُتداخلاً وشديدَ التعقيد. ينطبقُ ذلك على مسألة الحبس الاحتياطى، وما تُثيره من مآخذ وجدليَّاتٍ خلال الفترة الأخيرة، بين من يختزلونها فى قضايا السياسة وحرية الرأى والتعبير.
تُحسَمُ المعاركُ فى نفوس المُتقاتلين قبل أن تحسمَها الميادين، ولا تنفصلُ تجليَّاتُها الخَشِنَة عن تأسيسها الأيديولوجىِّ والثقافى الناعم. والمسافةُ بين كلِّ رصاصةٍ ومُستقرِّها الأخير.
مثلما الزمنُ لا يعود للوراء؛ فالذين قضوا فى جحيم غزَّة صاروا رقمًا فى أرشيف الضحايا. يتأسَّى العالم عليهم لكنه لا يسعى لاستيفاء حقوقهم؛ وما استدعاؤهم فى مجال النزاع إلَّا لاستنقاذ الباقين.
اليوم أحدثُ المواعيد مع ورشة البحث عن تهدئةٍ فى غزَّة. أفاضَ الأمريكيون فى التعبير عن تفاؤلهم، وتعاطت الوساطةُ العربية مع الجولة بحقِّها الواجب من الجدّية والاهتمام،
لا تسألْ عن العقلِ فى مناخات الجنون. الحالُ مُزريةٌ، والأعصابُ مشدودة، والفاصلُ بين الحياة والموت شَعرةٌ نَحيلةٌ قَطَعَها الاحتلالُ قبل عشرة أشهر.. فَقَدَ الموتُ جلالَه ورهبتَه فى نفوس الغزِّيين.
لا يُوفِّر نتنياهو فرصةً لإبراز أنيابه، وغرس مخالبه فى الأبدان.. واللعب معه بجُملة درويش الذائعة «مِنكُم السيفُ ومِنَّا دَمُنا»، لم يعُد يُثمر إلَّا مزيدًا من التوحُّش الصهيونى والموت المجانى للغزِّيين.