في مشهد كنسي غير مسبوق منذُ قرن، احتضنت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فعاليات المؤتمر الدولي السادس لمجلس الكنائس العالمي، والذي انعقد لأول مرة في ضيافة كنيسة شرقية، بمركز "لوجوس" بالمقر البابوي بدير القديس الأنبا بيشوي في وادي النطرون، بمشاركة نحو 500 شخصية كنسية يمثلون أكثر من 100 دولة حول العالم.
وتأتي الاستضافة بدعوة من قداسة البابا تواضروس الثاني، وبالتعاون مع مجلس الكنائس العالمي، في إطار الاحتفال بمرور 1700 عام على انعقاد مجمع نيقية الأول عام 325م، الذي يعد أحد أهم المجامع المسكونية في تاريخ المسيحية، وشارك فيه عدد من الآباء المصريين البارزين مثل القديس أثناسيوس الرسولي والبابا ألكسندروس.
وكان قد رحب المجمع المقدس للكنيسة باستضافة المؤتمر، مؤكدًا أن انعقاده في مصر يمثل حدثًا غير مسبوق سيتم تسجيله في السنكسار الكنسي، ويعزز صورة الكنيسة الأرثوذكسية المصرية ككيان روحي مؤثر على مستوى العالم.
وأوضح "المجمع" أن المؤتمر ذو طابع أكاديمي بحثي ولا يتضمن حوارًا عقائديًا أو صدور توصيات أو اتفاقيات، بل منصة لتقديم أوراق ودراسات حول مجمع نيقية كنموذج لمواجهة الانقسامات والبدع، مشددًا على أن الاستضافة تأتي "تكريمًا وتطويبًا" للآباء الذين حفظوا الإيمان، وفي مقدمتهم البابا أثناسيوس البابا العشرون والبابا ألكسندروس والبابا بطرس خاتم الشهداء.
الكنيسة القبطية.. منبع الحوار ووطن المجامع
وخلال كلمته في الجلسة الافتتاحية، رحب قداسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، بالمشاركين قائلًا: "أرحب بكم جميعًا في مصر، وفي مركز لوجوس للمؤتمرات، في هذا المكان المقدس بدير القديس العظيم الأنبا بيشوي في برية شيهيت المقدّسة، التي كانت إشعاعًا وإلهامًا للحياة الرهبانية منذ القرن الرابع الميلادي".
وأشار قداسته إلى أن هرطقة آريوس في القرن الرابع كانت تهديدًا لوحدة الإيمان المسيحي، وأن مجمع نيقية شكّل نموذجًا للحوار الكنسي الجامع، مؤكدًا أن "الوحدة الحقيقية هي وحدة في الإيمان، يكون واقعها أن نكون في شركة كاملة في الأسرار الإلهية".
ودعا الحاضرين إلى التعرف على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، واصفًا إياها بأنها "كنيسة عريقة تحمل إيمانها القويم وتراثها الآبائي العميق، إيمانًا رُوي بدماء الشهداء وحُفظ بأمانة عبر العصور".
وأوضح البابا أن انعقاد المؤتمر في مصر يمثل تكريمًا لآباء الكنيسة الأوائل الذين حافظوا على الإيمان، مشيرًا إلى أن القديس أثناسيوس الرسولي والبابا بطرس خاتم الشهداء كانا من أبرز رموز الدفاع عن العقيدة المسيحية في مواجهة البدع.
وأضاف أن استضافة المؤتمر في دير الأنبا بيشوي، أحد أقدم الأديرة في العالم، يعيد إلى الأذهان الدور التاريخي للكنيسة المصرية كمركز روحي ولاهوتي مؤثر في الشرق والغرب.
مجلس الكنائس العالمي.. أكبر مظلة مسيحية للتعاون والوحدة
يُعد مجلس الكنائس العالمي من أبرز الهيئات المسكونية على مستوى العالم، حيث يضم في عضويته 356 كنيسة من أكثر من 120 دولة، ويمثل أكثر من 580 مليون مسيحي من الطوائف الأرثوذكسية والأنجليكانية والمعمدانية واللوثرية والميثودية والإصلاحية وغيرها.
ويهدف المجلس إلى تعزيز الوحدة المسيحية والتعاون بين الكنائس في مجالات العبادة والخدمة والعمل من أجل السلام والعدالة الاجتماعية، كما يشارك في جهود حماية البيئة والإغاثة الإنسانية.
ويُذكر أن الكنيسة القبطية عضو في مجلس الكنائس العالمي منذ عام 1954، وتشارك في لجانه المتخصصة ومنها لجنة الإيمان والنظام. ويضم المجلس أكثر من 315 كنيسة من أكثر من مئة دولة، تشكل فيها الكنائس الشرقية نحو 15% مقابل 85% للكنائس الغربية، ما يجعل منح الصوت الشرقي مساحة أكبر من خلال هذا المؤتمر خطوة مهمة توازن المشهد المسكوني.
مصر مركزًا للحوار الكنسي العالمي
وتأتي الاستضافة امتدادًا لنجاحات سابقة حققتها الكنيسة المصرية، إذ نظمت الجمعية العامة الثانية عشرة لمجلس كنائس الشرق الأوسط عام 2022، ولقاء ممثلي الكنائس الأرثوذكسية العالمية 2024، واجتماعات بطاركة الشرق الأوسط الأرثوذكس 2025.
وتم تشكيل لجنة تنظيمية برئاسة الأنبا أبراهام الأسقف العام بإيبارشية لوس أنجلوس، لتنسيق الجوانب اللوجستية والاستقبال والإقامة والتغطية الإعلامية، بينما يتولى مجلس الكنائس العالمي مسؤولية البرنامج الأكاديمي والمحاضرات.
الحدث يعكس موقع الكنيسة القبطية ككنيسة شرقية قوية وفاعلة عالمياً، ويعزز صورة مصر كحاضنة للتاريخ المسيحي وملتقى للحوارات الإيمانية. كما يمثل استضافة نادرة لمؤتمر عالمي يُعقد للمرة السادسة فقط منذ 1927، ولأول مرة في ضيافة كنيسة أرثوذكسية شرقية، ما يمنح الكنيسة المصرية حضورًا متجددًا في مشهد المسكونية الدولية ويؤكد دورها في صياغة خطاب لاهوتي جامع على المستوى العالمي.
ويُعد هذا المؤتمر الحدث الأبرز في تاريخ العلاقات المسكونية الحديثة للكنيسة القبطية، إذ يأتي بعد سلسلة من اللقاءات الدولية التي استضافتها مصر خلال السنوات الأخيرة، منها اجتماع مجلس كنائس الشرق الأوسط عام 2022، ولقاءات الكنائس الأرثوذكسية العالمية عام 2024، وبطاركة الشرق الأوسط الأرثوذكس عام 2025.