بينما يظن البعض أن الحياة خلف الأسوار تتجمد، وأن الأيام داخل مراكز الإصلاح والتأهيل تُستهلك فقط في قضاء العقوبة والندم على الماضي، تكشف الحقيقة وجهًا آخر أكثر عمقًا وإنسانية، فهنا، في قلب مؤسسات الإصلاح، لا تنطفئ الأرواح، بل تُعاد صياغتها، لا تنتهي القصص، بل تُكتب فصول جديدة، تُخاط فيها كرامة العمل وخيوط الأمل.
ليست فقط مراكز لإعادة تأهيل الإنسان، بل مصانع للكرامة، في هذه المؤسسات، يتحول الفراغ إلى إنتاج، والوقت إلى قيمة، والعقوبة إلى فرصة جديدة للبدء من جديد، ومن بين جدرانها، تخرج مشروعات إنتاجية ضخمة، لا تكتفي بالاكتفاء الذاتي، بل تُمد يدها إلى الخارج، لتصل منتجات النزلاء إلى الناس، تحمل معها طابعًا إنسانيًا واقتصاديًا في آنٍ واحد.
جريدة اليوم السابع عايشت تلك التفاصيل عن قرب، حيث رصدت إحدى السيارات المتنقلة التابعة لقطاع الحماية المجتمعية بوزارة الداخلية، محملة بمنتجات النزلاء، تلك السيارات ليست مجرد عربات بيع، بل رسائل متحركة تقول إن خلف الأسوار، هناك من يعمل، ويزرع، ويصنع، وينتج، لا ينتظر الإحسان، بل يشارك في سوق الحياة بعرق الجبين.
العربات تحمل كل ما يحتاجه بيت مصري: لحوم طازجة، دواجن، أسماك، خضروات، فواكه، بيض، زيوت، معلبات، بل وكل ما يمكن أن تتوقعه من سلع غذائية أساسية، وكل هذا، من إنتاج النزلاء داخل المشروعات الإنتاجية لمراكز الإصلاح والتأهيل، والتي باتت نموذجًا فريدًا في تحويل الطاقة البشرية المعطلة إلى قوة منتجة.
المواطنون تفاعلوا مع هذه القوافل بشكل لافت، وجوه تبتسم حين ترى الأسعار التي تقف في وصف المواطن وتخفف عنه، وكلمات ثناء تتكرر على مسامع البائعين من نزلاء الأمس، المنتجين اليوم.
قال أحد المواطنين إنه فوجئ بجودة المنتجات، التي لا تقل عن مثيلاتها في الأسواق، بل تتفوق في نضارتها ونظافتها، والأهم من ذلك السعر الذي يناسب ميزانية الأسرة.
وأكد آخر أن هذه السيارات باتت مقصده الأسبوعي لتأمين احتياجات منزله، معربًا عن تقديره للدور المجتمعي الذي تقوم به وزارة الداخلية.
ليست فقط تجربة بيع عابرة، بل تجربة إنسانية واقتصادية ناضجة، تؤكد أن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالعقوبة وحدها، بل بإتاحة الفرصة، وتوفير الأدوات، وفتح أبواب جديدة نحو حياة أفضل.
اللواء خالد الشاذلي، الخبير الأمني، قال إن وزارة الداخلية حققت نقلة نوعية في تطوير مراكز الإصلاح والتأهيل، ليس فقط على مستوى الإنشاءات الحديثة أو المعاملة الإنسانية، بل على مستوى المشروعات الإنتاجية التي باتت تدر عائدًا وتوفر فرص تدريب حقيقي للنزلاء.
وأشار إلى أن هذه المشروعات لا تمثل فقط فرصة للنزيل لاستثمار وقته واكتساب مهارات، بل تؤكد حرص الدولة على إعلاء قيمة العمل، حتى في أكثر البيئات خصوصية، كما أنها تسهم بشكل ملموس في دعم السوق المحلي، وتوفير سلع بأسعار تنافسية تخفف العبء عن كاهل المواطن.
وأضاف الشاذلي أن وزارة الداخلية تطبق أعلى معايير حقوق الإنسان داخل هذه المؤسسات، حيث باتت مراكز الإصلاح أماكن تُصنع فيها الحياة من جديد، ويُمنح فيها الإنسان فرصة حقيقية للعودة إلى مجتمعه بوجه مرفوع ومهارة مكتسبة.
ما يجري داخل هذه المراكز، وما يخرج منها من منتجات، ليس فقط عملاً إداريًا منضبطًا، بل رؤية إنسانية متكاملة، فحين تتحول الأسوار من حدود فاصلة إلى حوافٍ للإنتاج، يصبح القانون أداة إصلاح لا انتقام، وتصبح العقوبة بداية لا نهاية.
إنها تجربة فريدة، تُعيد تعريف العلاقة بين النزيل والمجتمع، وتكسر الصور النمطية المتجمدة، وتفتح نوافذ الأمل لمن ظن أنه طُويت صفحته، حين تشتري علبة بيض أو قطعة لحم من إحدى هذه السيارات المتنقلة، فأنت لا تحصل فقط على سلعة بجودة وسعر جيد، بل تشارك دون أن تدري في قصة تغيير، ودعم مسار إنساني يعيد تشكيل حياة من جديد.
وربما يكون أجمل ما في هذه التجربة، أنها تُذكّرنا جميعًا أن الفرصة الثانية ممكنة، وأن كل يد عمل تُمنح أداة، وكل طاقة خام تجد طريقها للإنتاج، يمكن أن تتحول إلى طاقة حياة.