-وخبير قانون دولى: صناعة نسخ بديلة تتماشى مع الممارسات الدولية لحماية التراث
الآثار قيمة تاريخية وتراثية، فضلا عن كونها ذاكرة وطن، وحينما يتعرض الأثر للسرقة أو التلف، يغيب جزء من هذه الذاكرة.
الإسورة الأثرية المسروقة من المتحف التى أخرجت بفعل فاعل من سياقها التاريخى وصهرت، تحولت فى لحظة إلى مجرد معدن خام، لم تعد تروى شيئًا عن الصانع القديم، أو عن الحضارة التى شكلت ملامحها الأولى، أو عن اليد التى ارتدتها يومًا ما لتصبح شاهدًا على زمن وبيئة وثقافة.
الجريمة هنا لا تكمن فقط فى سرقة قطعة أثرية، بل فى محو سجل كامل من الذاكرة الجمعية، إذ يصبح الذهب مهما بلغت قيمته المادية بلا روح، بلا هوية، بلا معنى، ومع ذلك، يظل السؤال حاضرًا.. هل يمكن إعادة تشكيل نسخة جديدة تروى القصة ولو من وراء الزجاج؟ وهل تكفى النسخ المقلدة لتعيد للأثر شيئًا من حضوره أم أن القيمة الحقيقية تظل حبيسة القطعة الأصلية التى أبيدت؟
هذا التحقيق يفتح الملف من زواياه كافة. من القانون الذى يصف الجريمة بأغلظ العقوبات إلى خبراء الآثار الذين يضعون القيمة العلمية قبل قيمة المعدن، وصولًا إلى الصاغة الذين يتحدثون عن إمكانية إعادة التشكيل فنيًا، ورجال القانون الذين يرون أن «الأحراز تصادر حتى لو تغيرت طبيعتها».
ما بين الرواية الأثرية، والرؤية القانونية، والتفسير الفنى، تبقى الحقيقة المؤلمة واحدة، إسورة كانت يومًا ما نافذة على حضارة، تحولت إلى صمت ثقيل لا يبوح إلا بالخسارة.
لكنه من زاوية أخرى، فإن استنساخ الآثار أو إعادة تشكيلها حلًا غريبًا على العالم، بل أصبح فى كثير من التجارب وسيلة للحفاظ على الذاكرة الجماعية رغم الفقدان أو الدمار.
ففى البوسنة، أُعيد بناء جسر موستار العثمانى بعد تدميره فى حرب البلقان ليصبح رمزًا عالميًا للمصالحة، فيما أعادت ألمانيا تشييد كنيسة فراوينكيرشه فى دريسدن حجرًا فوق حجر، واعتبر افتتاحها حدثًا تاريخيًا.
أما بولندا فقدمت نموذجًا فريدًا بإعادة إعمار كامل لمدينة وارسو القديمة، استنادًا إلى لوحات ورسوم تاريخية، حتى أدرجتها اليونسكو ضمن التراث العالمى.
كما لجأت أفغانستان إلى تقنية الإسقاط الضوئى والهولوجرام لإحياء تماثيل بوذا التى فجرتها طالبان، بينما أعاد متحف بيرجامون فى برلين تركيب بوابة عشتار البابلية بمزج بين الأحجار الأصلية وأخرى مصنوعة حديثًا.
هذه النماذج تعكس أن فقدان الأثر لا يعنى بالضرورة غياب قصته، بل إن إعادة تشكيله أو استنساخه قد تمنحه حياة جديدة، وتحوله من مجرد قطعة منهوبة أو مدمرة إلى شاهد على تاريخ مزدوج، تاريخ الأصل وتاريخ الضياع، وهو ما يفتح باب التساؤل حول جدوى استنساخ الإسورة الذهبية المسروقة من المتحف المصرى، وعرضها بجوار لوحة تروى قصة سرقتها، لتصبح شاهدًا على الذاكرة لا مجرد غياب.
كبير الأثريين بوزارة الآثار، مجدى شاكر، قال فى تصريحات خاصة لـ«اليوم السابع»: إن القطعة الأثرية ليست «إسورة» كما يتردد إعلاميا، بل «دملك» يلف على الساعد، ويعود عمرها إلى نحو 3200 عام، مؤكدا أن قيمتها تكمن فى رمزيتها التاريخية والفنية وليس فى معدن الذهب المصنوعة منه.
وأوضح «شاكر»: «إن الدملك مصنوع من ذهب مطروق ومفرغ من الداخل بوزن لا يتجاوز 37.25 جرام، وقطر نحو 7.5 سم، ومطعم بحجر اللازورد النادر المستورد من أفغانستان القديمة، ما يعكس ازدهارا تجاريا وحرفيا حتى فى عصر الأسرة الحادية والعشرين الذى وصف تاريخيا بعصر الاضمحلال».
وأضاف «شاكر»: إن القطعة عثر عليها داخل مقبرة الملك بسوسنس الأول، وابنه الملك أمنموبى فى صان الحجر «تانيس» عام 1939، مؤكدا أنها تمثل وثيقة فنية وحضارية تكشف عن دقة المصرى القديم فى صناعة الحُلى وربطها بالرمزية الدينية، حيث ارتبط الذهب بعظام الآلهة، فيما حمل الحجر طاقة روحانية ومعنى دينيا خاصا.
أشار كبير الأثريين إلى أن كل أثر، سواء كان من ذهب أو حجر، له نفس القيمة التاريخية، لأنه يحمل بصمة حضارية فريدة، مضيفا: «الأثر قيمته فى كونه أثرا، لا فى وزنه أو مادته».
وتعليقا على ما تردد بشأن صهر الدملك أو فقدان خرزته الأصلية، قال «شاكر»: إن عملية الصهر، إن حدثت، تكون قد غيرت شكله الأثرى بالكامل، محولة إياه إلى مجرد معدن بلا قيمة أثرية، مضيفا: إن فقدان الخرزة لا يعنى نهاية الأثر تماما، إذ يمكن ولو بنسبة 1% إعادة تشكيلها أو عرض نسخة موازية بجوار لوحة تروى قصة السرقة والضياع.
شدد «شاكر» على أن الحادثة يجب أن تكون جرس إنذار لمراجعة منظومة حماية الآثار، مؤكدا أن توثيق القطع وصيانتها ورفع الوعى بأهميتها يمثل حصانة حقيقية ضد محاولات التهريب أو التلاعب.
من جانبه، أكد الدكتور خالد حسن، أستاذ الآثار بكلية الآثار جامعة القاهرة، فى تصريحات خاصة لـ«اليوم السابع»، أن قيمة الإسورة الأثرية تكمن فى تاريخها وأثريتها، وليس فى معدنها المصنوعة منه، موضحًا أن القطع الأثرية، سواء كانت من الذهب أو الحجر أو المعدن، تحمل نفس القيمة العلمية والتراثية.
قال «حسن»: إن الإسورة التى تعرضت لعملية صهر فقدت هويتها كقطعة أثرية وتحولت إلى مادة خام، مثل أى ذهب مستخرج من باطن الأرض منذ ملايين السنين، مشيرًا إلى أن الذهب لا يشيخ ولا يكتسب قيمة أثرية بصفته مادة، وإنما فى سياقه الأثرى وشكله التاريخى.
أوضح «حسن» أن هناك آثارًا كثيرة يتم عرضها بعد ترميمها فى حالة العثور عليها مكسورة أو مهشمة، حيث يتدخل المرممون فى مصر، الذين يعدون من أفضل المتخصصين عالميًا لإعادتها إلى حالتها الأصلية، لكنه أشار فى الوقت نفسه إلى أن حالة الإسورة مختلفة، إذ إنها صُهرت مع ذهب آخر، وبالتالى لم يعد لها وجود مادى يمكن ترميمه أو إعادة تشكيله.
وأضاف أستاذ الآثار أن فكرة عرض نسخة جديدة من الإسورة المصهورة قد تكون ممكنة، لكنها لن تحمل القيمة العلمية للأصل حتى لو صنعت من الذهب نفسه، لافتًا إلى أن النسخ المماثلة يمكن تصنيعها من أى معدن آخر كالنحاس أو الفضة، لكن الغرض منها سيكون توثيقيًا أو تشويقيًا للجمهور أكثر من كونه علميًا.
شدد «حسن» على أن القيمة الأثرية الحقيقية كانت فى وجود الإسورة كقطعة تاريخية مرتبطة بسياقها وحكايتها، مشيرًا إلى أن بعض الآثار المصنوعة من الطين أو الحجر قد تحمل قيمة لا تقل عن الذهب إذا ارتبطت بسياق تاريخى أو حضارى.
كما أكد «حسن» فى ختام تصريحاته على أن إعادة تشكيل الإسورة مرة أخرى تعد وجهة نظر تحترم، خصوصًا إذا كان الهدف منها توثيق قصة السرقة والصهر وإضفاء طابع مشوّق يعرض حكاية الأثر منذ اكتشافه وحتى ضياعه.
بدوره، قال أحد تجار الذهب، لـ«اليوم السابع»: إن الذهب لا يفقد قيمته المادية بعد الصهر، حيث يظل محتفظًا بوزنه وعياره، موضحًا أن الخسارة لا تتعدى جزءًا بسيطًا جدًا من الوزن أثناء عملية الصهر.
وأوضح أن إعادة تشكيل الذهب المصهور ممكنة، من حيث الوزن والنقاء، لكن من المستحيل استعادة التصميم الأصلى إذا كان العمل يدويًا أو أثريًا، مشيرًا إلى أن قيمة المشغولات القديمة تختلف جذريًا عن قيمة الذهب الخام، إذ تقدر بآلاف الأضعاف لارتباطها بتاريخها وصناعتها التراثية.
وأوضح أن الصائغ يمكنه تنفيذ نسخة مطابقة للشكل إذا توفرت صور دقيقة، لكنها ستظل مجرد «قطعة ذهبية» وليست أثرًا، لأن الأثرية مرتبطة بالأصل وسياقه التاريخى لا بالشكل وحده.
كما أكد أن عملية الصهر تمحو أى دمغة أو ختم قديم، ولا يبقى سوى إعادة دمغها بخاتم مصلحة الدمغة الحديث.
وتابع: «النسخ أو الذهب المصهور قد يجذب الزوار كحكاية، لكن لا يمكن أن يعوّض الأصل ولا يحمل نفس الجاذبية»، مشيرًا إلى أن الصاغة لديهم خبرات فى صناعة نسخ من تصاميم قديمة أو فرعونية بغرض تجارى أو سياحى، لكن الأمر يختلف تمامًا مع القطع الأثرية الأصلية.
وشدد على أن مشاركة الصاغة المصريين مع وزارة السياحة والآثار فى إعادة تشكيل الإسورة ممكنة من الناحية الفنية، لكن النسخة يجب أن تعرض بوضوح باعتبارها نسخة توثيقية، وليست القطعة الأثرية الأصلية.
بدوره، أكد الدكتور محمد محمود مهران، أستاذ القانون الدولى العام وعضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولى فى تصريحات خاصة لـ«اليوم السابع»، أن حادثة سرقة السوار الأثرى من المتحف المصرى تمثل جريمة ضد التراث الإنسانى المشترك وفقا لاتفاقية اليونسكو لعام 1970.
وفيما يتعلق بإتلاف السوار المختلس و«تسييحه» من قبل موظفة المتحف المتهمة، أوضح «مهران» أن هذا العمل يشكل جريمة مزدوجة، وفقا للقانون الدولى، حيث تجتمع جريمة السرقة مع جريمة إتلاف التراث الثقافى.
كما لفت «مهران» إلى أن المادة الثامنة من اتفاقية لاهاى لعام 1954 تجرم تدمير الممتلكات الثقافية، وتعتبرها انتهاكا جسيما للقانون الدولى، بينما تنص المادة التاسعة من اتفاقية اليونسكو 1970 على اعتبار إتلاف الآثار جريمة ضد التراث الإنسانى المشترك.
أكد «مهران» أن هذا الإتلاف المتعمد لا يسقط المسؤولية الجنائية عن الجناة بل يضاعفها، ويجعلهم مسؤولين عن التعويض المادى والمعنوى للأضرار التى لحقت بالتراث الثقافى المصرى والإنسانى، مشددا على أن القوانين الدولية تنص على عدم سقوط هذه الجرائم بالتقادم، نظرا لخطورتها على التراث الثقافى للبشرية.
وحول الحالات المشابهة فى دول أخرى، لفت «مهران» إلى حالة إيطاليا التى أعادت تشكيل تماثيل مسروقة من متاحفها وعرضتها مع الاحتفاظ بالحق فى استرداد الأصول، وقد نجحت فعلا فى استردادها لاحقا، وحالة بيرو التى أعادت تشكيل نماذج للعرض مع مواصلة جهود الاسترداد القانونى للقطع الأصلية.
وشدد «مهران» على أن المادة الرابعة من اتفاقية التراث العالمى لعام 1972 تلزم الدول بحماية وحفظ التراث الثقافى للأجيال القادمة، وهو ما يبرر صنع النسخ لضمان استمرارية العرض المتحفى، مشيرا إلى أن المبادئ الأخلاقية للمتاحف الصادرة عن المجلس الدولى للمتاحف تؤكد ضرورة الشفافية مع الجمهور حول طبيعة المعروضات.
كذلك، أكد محمد مهران، خبير القانون الدولى، أن القانون المصرى شدد العقوبات على جرائم إتلاف أو تدمير الآثار، حيث تصل العقوبة فى حالة التعمد إلى السجن المؤبد، بالإضافة إلى غرامات مالية كبيرة، وفقًا لقانون العقوبات وقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته.
كما أوضح أن هناك فارقًا بين الضرر الناتج عن إهمال والضرر المتعمد، حيث تأخذ المحكمة بالعقوبة الأشد فى حالة القصد الجنائى، بينما تظل قائمة فى حالات الإهمال مع تخفيفها نسبيًا حسب ما ترى المحكمة.
وأضاف: إن العقوبات قد تختلف كذلك بحسب وضع الأثر، فالمسجل رسميًا فى عداد الآثار يحظى بحماية أشد من غير المسجل، وإن كان القانون يجرم أيضًا الاعتداء على أى مبنى أو قطعة ذات قيمة تاريخية أو فنية.
وأشار «مهران» إلى أن العقوبة لا تقتصر على الجانب الجنائى فقط، بل تمتد إلى التعويض المدنى، حيث يحق للدولة مطالبة الجانى بجبر الضرر الذى لحق بالمال العام، باعتبار الأثر ملكًا للأمة.
ولفت إلى أن العقوبة تكون أشد إذا كان الفاعل موظفًا عامًا أو له صلة بجهة مسؤولة عن حماية الأثر، حيث تعتبر الجريمة فى هذه الحالة اختلاسا وإضرارا عمديا بالمال العام واستغلالًا للوظيفة، وهو ما قد يصل إلى السجن المشدد والعزل من والوظيفة.
وتابع: إن العقوبة تقدر حسب تقدير المحكمة، ففى حال تدمير الأثر بشكل كامل قد تطبق المحكمة العقوبات فى حدها الأقصى نتيجة جسامة الفعل، بينما يمكن أن يكون الإتلاف الجزئى فى نظر المحكمة أقل جسامة، لكنه يظل مجرمًا فى القانون.
من جهته، قال المحامى بالنقض حسام حسن الجعفرى فى تصريحات خاصة لـ«اليوم السابع»: إن جريمة سرقة وصهر الآثار تعد من أخطر الجرائم التى تواجه الهوية المصرية، إذ لا تقتصر على فقدان قطعة فنية أو تاريخية، بل تمثل ضياعًا لجزء من الذاكرة الجماعية للأمة.
أكد «الجعفرى» أن القانون المصرى تعامل مع هذه الجريمة بصرامة بالغة، حيث نص قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته بالقانون رقم 20 لسنة 2020 على أن من يسرق أثرًا أو جزءًا منه بقصد تهريبه للخارج يواجه عقوبة السجن المؤبد وغرامة مالية لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد على خمسة ملايين، فضلًا عن مصادرة الأثر والأدوات والسيارات التى استخدمت فى الجريمة.
وأضاف: إن القانون شدد أيضًا على أن السرقة دون نية التهريب يعاقب عليها بالسجن المشدد، وغرامة تتراوح بين مليون ومليونى جنيه، وقد تصل العقوبة إلى السجن سبع سنوات فى حال إخفاء الأثر أو جزء منه.
وأشار إلى أن المادة 28 ألزمت بحفظ الآثار المنقولة فى المتاحف والمخازن التابعة للمجلس الأعلى للآثار، باعتبارها من أملاك الدولة العامة، بينما أسندت المادة 29 مهمة الحماية والحراسة إلى المجلس بالتعاون مع الشرطة المختصة.
وأوضح أن المادة 44 شددت على مصادرة الأحراز المضبوطة حتى فى حال تغير طبيعتها، كما يحدث عند صهر القطع الذهبية وتحويلها إلى مجرد معدن خام.
كما أكد أن المجلس الأعلى للآثار يحتفظ بالقطع المضبوطة داخل مخازنه، لحين صدور حكم نهائى بشأنها، وفقًا للمادة 47.
وفى النهاية، تبقى إعادة تشكيل نسخة جديدة فرصة لرؤية شكلها ومتابعة قصتها لأجيال متعاقبة، لكنه لن يعيد الروح التاريخية المفقودة، ولن يبدل قيمة الأصل الأثرى التى لم يخلدها سوى الزمن وسياق الاكتشاف.
ومع ذلك، فإن هذه النسخ التوثيقية تظل وسيلة لإبقاء الذاكرة حية، وتذكيرًا بأن حماية التراث ليست رفاهية، بل واجب على الأجيال القادمة، لتبقى الحضارة شاهدة متصلة بماضيها، رغم كل ما تتعرض له من تدمير متعمد أو إهمال جسيم.
