منذ أن سال دم هابيل فوق الأرض، في لحظة القتل الأول التي افتتحها قابيل بقتله لأخيه هابيل، لم يَعد الإنسان كما كان، بل سارت من بعده في مسلسل دموي لا ينتهي، ليست حادثة عابرة في سجلّ التاريخ، بل كانت الشرارة التي فجّرت كل الأسئلة الوجودية في العقل الإنساني، ومسّت جوهر البشر في هشاشته وقسوته، من هذا المنطلق يمكننا النظر إلى المسرحي "فزّاعات"، نصًّا وتأليفًا، بوصفها مختبرًا دراميًا يعيد استحضار الأسطورة المؤسسة لبداية الخلق، مستحضرًا فيها الماضي كي يضيء على حاضرنا المسكون بالعنف، والمُثقَل بما يمكن تسميته مع صالح زمانان بـ"القتل السائل".
في العرض المسرحي "فزّاعات" ينطلق صالح زمانان من أسطورة القتل الأولى في حياة البشر، لكنه لا يعيد سردية جريمة قابيل في قتل أخيه هابيل، بل يستعيد الحكاية من أبعاد أخلاقية وميتافيزيقية في سردية لا تخلو من الترميز الدين والتاريخي ولكن برؤية معاصرة، عبر بنية شعرية محكمة، محاولا ردم الفجوات وشد الشقوق واستكمال القطع المتآكلة من رقعة الجلد، لتوفير سياق قادر على حمل الحكاية دراميًّا، من خلال مسار صاعد لا يخلو من توليفة الحكي الأساسية، بما تتطلّبه من صراعٍ وتنامٍ وإضاءات وكشف! وبما لا يخل بالظروف والبيئة التي نشأت فيها الأسطورة، ليكمل القصة ويملأ الفراغات في الأسطورة الدينية، محاولًا الإجابة عن إجابات لطالما شغلت العقل البشري منذ بداية ظهوره، مستندًا إلى المرجعيات قرآنية والتوراتية، لكنه في الوقت نفسه لم يقع في المباشرة الوعظية.
لكن "زمانان" لم يكتفي بالتأويل الديني أو الأخلاقي، بل يذهب إلى تجسيد صورة أكثر معاصرة حول ماهية الحياة ووجود البشر، صورة عن الإنسان الممزّق الذي يحمل في داخله بذور البراءة والخطيئة معًا، مجسدا حالة الانقسام الداخلي للإنسان، الذي يصارع بين الخير والشر، بين الشعور بالذنب والاحتياج للمخلص بعد خطيئة آدم الأولى التي جلبت معها الانفصال عن الله وفقدان النعمة، مصورً "أول فزّاعة" في التاريخ، واستطاع صبحي يوسف صياغة سردية زمانان في لوحات فنية، غنية بالصور والاستعارات محولًا خطيئة البشر الأولى إلى لوحة شعرية، وسجالية درامية تحاكم الإنسان نفسه، وتفضح تناقضاته، في طرحًا يتفق مع رؤية الفيلسوف هايدجر عن ماهية الوجود، والإنسان الذي يضع نفسه في موضع التساؤل الدائم، عن الإنسان الملقى وحيداً في صدفة جاءت به إلى هذا العالم، فتدرك الذات أنها فانية، وأنها حقيقة واقعة كغيرها من الحقائق وأنها جزء من اهتمام زائل.
صالح زمانان في "فزّاعات" يعيد تشكيل صورة الحاضر المليئة بالحروب والمجازر والاغتيالات، من خلال فتح الجرح البشري الغائر منذ بداية الخلق، باسقاطات رمزية عن صورة الإنسان المعاصر، وأسباب غرائزه الدموية، إذًا لا يحاول المؤلف تقديم إجابات واضحة ومباشرة عن صورة الإنسان المأزوم، بل ينفتح النص على استعارة فلسفية تقترب من طرح الفيلسوف العدمي شوبنهاور، القائل بإن الحياة لا تستحق أن تُعاش، وأن العدم أفضل من الوجود، في هذا المنظور، تغدو المعاناة أعمق من كل لذّة، والسعادة إمّا عابرة أو عصيّة على المنال، فيما يظل الوجود نفسه خاليًا من قيمة جوهرية أو غاية أصيلة.
صبحي يوسف، مخرج العمل، تعامل مع النص بوصفه مادة فلسفية-شعرية تحتاج إلى فضاء بصري مكثّف. اختار أن يبني العرض على ثنائية "الحقول/المقابر"، حيث تتحوّل الأرض من مرعى للحياة إلى مسرح للموت، السينوغرافيا جاءت بسيطة لكنها عميقة الدلالة، واعتمد فيها المخرج في بنائه السينوغرافي على استثمار الفضاء المسرحي بكل تفاصيله، حيث لم يترك أي زاوية إلا وجعل منها امتدادًا للحالة الدرامية، حيث امتلأت الخشبة بالضوء والظلال، في حوار بصري متناقض، يعكس حالة الجدل النفسي والوجودي التي يعيشها الإنسان وهو يواجه ذاته والعالم من حوله.
هذه المشهدية الجمالية تستدعي بوضوح مسرح الطقوس، حيث يصبح الجسد الإنساني والفضاء المحيط به نصًا موازيًا للنص المكتوب، الجسد يتحرك كعلامة مشحونة بالرموز، والفضاء يتشكل كمجال مفتوح للتأويل، وكأن المتفرج مدعو للدخول في تجربة تتجاوز حدود الحكاية لتلامس البعد الأسطوري والميتافيزيقي للعرض. وبهذا، تتحول السينوغرافيا إلى عنصر حيّ، يوازي الأداء التمثيلي ويكشف أبعاد النص الفكرية، فتغدو الخشبة مختبرًا يتقاطع فيه الضوء والظل، الجسد والفراغ، ليكوّن جميعها نصًا بصريًا متكاملًا يوازي بل أحيانًا يسبق النص المكتوب في التعبير عن جوهر العرض.
وجاءت ألحان حازم شاهين لتشكّل لوحة موسيقية شجية وعميقة، متناسقة مع البنية الدرامية للنص، فكانت أشبه بترجمة حسية لـ صوت القتيل وصمت الأرض. اتخذت الجمل الموسيقية طابع "تراتيل جنائزية".
وفي المقابل، لعبت الإضاءة دورًا دراميًا حاسمًا، إذ ركّزت على لحظات المواجهة الداخلية التي يعيشها قابيل، وجعلت من الظلّ كيانًا قائمًا بذاته، أشبه بـ"ضمير مظلم" يطارد الشخصية ويحاصرها من كل الجهات. بذلك، اجتمعت الموسيقى والأزياء والإضاءة لتصنع معًا فضاءً بصريًا وسمعيًا مكتملاً، يوازي النص المكتوب ويعمّق دلالاته الفلسفية والرمزية.
أما تصميم الأزياء الذي قدمته إبتهال الغريب، فقد أضاف بعدًا بصريًا متماهياً مع النص، حيث جاءت الأزياء بسيطة في ظاهرها، لكنها مشبعة بالرموز والدلالات، تمزج بين البدائي والأسطوري، لتمنح العرض طابعًا يتجاوز الحكاية القديمة نحو رمزية متجددة تلامس حاضرنا.
أبطال العرض (عبدالعزيز اليتيمي، عبدالرحمن أبو الخير، هتون خالد، دنيا العنزي، مشاري الصقعبي، نجد عبدالعزيز) قدّموا أداءً متوازنًا، جمع بين عمق الانفعال الداخلي ودقة التعبير الجسدي، فاستطاع كل منهم عبر التلوين الصوتي أن يمنح صراعاته الداخلية حضورًا ملموسًا على الخشبة، وكأن الأصوات نفسها صارت مرآة لارتجاج الروح وتمزقاتها. أما الفزّاعة، فقد تجسّد صوتها كـ ضمير النص الحيّ، يلخّص في حضوره مأساة الإنسان الكونية، ويكثّفها في جملة وجودية دامغة تظل معلّقة في أفق العرض.
وبوجه عام، لم يكن الأداء فرديًا قائمًا على استعراض القدرات الشخصية، بل اتخذ طابعًا تراجيديًا، تناغم فيه الممثلون كأصوات متشابكة نسجت معًا لوحة درامية واحدة، بحيث بدا كل ممثل جزءًا من كلّ متكامل، يعكس انسجام الرؤية الإخراجية ويعزّز حضور العرض كتجربة جماعية في الشكل والروح.
في النهاية، قدّم العرض صورة معاصرة لأول فزّاعة إجرامية في التاريخ البشري، محاولًا قراءة الحاضر عبر نبش الماضي، ومطلقًا صرخة مدوّية ضد القتل والعنف اللذين يبتلعان واقعنا الراهن. جاءت أطروحته الفلسفية لتؤكد أن القاتل الأول لم يمت، بل ما زال يسكن في داخل كل إنسان ما لم يروّض شهوته للدم.
ورغم ارتداء العرض عباءة شعبوية تستلهم الفولكلور ومنطق الفرجة، إلا أنه حمل قدرًا وافرًا من روح التجريب، سواء في مستويات السرد والبناء الدرامي، أو في التشكيل البصري، أو في المزاوجة بين الحوار والمرجعيات النصية المؤسِّسة للحكاية، وفي محصّلته، بدا العمل متكاملًا، ثريًا، نابضًا بالحيوية والجاذبية على مستوى الشكل والمعنى معًا، إذ تكامل فيه نص صالح زمانان، مع إخراج صبحي يوسف، وأداء جماعي متماسك. هكذا جاءت "فزّاعات" شهادة فنية تؤكد أن المسرح ما زال قادرًا على أن يكون فنًا عميقًا وهادفًا، وأن يفتح نافذة مشرعة على الأسئلة الكبرى للوجود.