فى طفولته المبكرة، لم يكن المسيح مجرد شخصية دينية عظيمة، بل كان أيضًا طفلًا ضعيفًا ومُهددًا بقتله من هيرودوس، فقصة لجوء العائلة المقدسة إلى مصر تحمل في طياتها أبعادًا إنسانية عميقة تتجاوز البعد الدينى، بالإضافة إلى الخوف والأمل وكذلك البحث عن الأمان فى أرض غريبة، وعن استقبال شعب مصر لأناس اضطرتهم الظروف إلى ترك ديارهم.
وكانت السيدة مريم العذراء وهى تحمل طفلها السيد المسيح، ويوسف النجار بجانبها، يسافرون عبر طرق وعرة وصحارى شاسعة، هاربين من بطش الملك هيرودس الذى أراد قتل الأطفال فى بيت لحم، فقد كانوا لاجئين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يبحثون عن ملجأ وحماية فى أرض مصر.
وقال الأب دوماديوس كاهن كنيسة مارمرقس بأسوان في تصريحات خاصة لليوم السابع أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحتفل يوم 1 يونيو من كل عام بذكرى لجوء العائلة المقدسة لمصر والهرب من هيرودس، موضحا أن الرحلة تذكرنا بواقع ملايين اللاجئين حول العالم اليوم، الذين يتركون أوطانهم بحثًا عن الأمن والسلام، واستقبال مصر للعائلة المقدسة يمثل نموذجًا للتسامح والضيافة، ويؤكد على القيم الإنسانية المشتركة التي تجمعنا بغض النظر عن الدين أو الجنسية، فهذه الرحلة المباركة لم تضف فقط بُعدًا روحيًا لمصر، بل عززت أيضًا تاريخها كأرض تحتضن كل من يلجأ إليها.
رحلة مسار العائلة المقدسة
1. شمال سيناء - نقطة الدخول:
الفرما (Pelusium): أول مدينة مصرية تطأها أقدام العائلة المقدسة قادمة من فلسطين عبر صحراء سيناء. كانت الفرما مدينة حدودية هامة فى العصور القديمة، ودخولهم من هذا الباب يمثل بداية رحلتهم فى أرض مصر.
2. دلتا النيل - التوجه نحو الداخل:
تل بسطة (Bubastis): اتجهت العائلة المقدسة جنوبًا إلى منطقة الدلتا ووصلت إلى تل بسطة، التي كانت عاصمة لمصر في عهد الأسرة الثانية والعشرين. يُذكر أن وجود المسيح في هذا المكان أدى إلى سقوط الأوثان وتحطيمها، كما يُقال أنه نبع ماء في هذا المكان ليشربوا منه.
المحلة الكبرى وسمنود: تشير بعض الروايات إلى مرورهم بمناطق أخرى في الدلتا مثل المحلة الكبرى وسمنود (Thmuis).
وادي النطرون: واحة صحراوية غرب الدلتا، اشتهرت فيما بعد بوجود العديد من الأديرة المسيحية الهامة. يُعتقد أن العائلة المقدسة مرت بهذه المنطقة المباركة، مما أضفى عليها قدسية خاصة.
3. القاهرة والمناطق المحيطة - محطات هامة:
عين شمس والمطرية: دخلت العائلة المقدسة إلى المنطقة التي تُعرف الآن بعين شمس والمطرية، وكانت تُعرف قديمًا باسم "أون" (Heliopolis). يُقال أنهم استراحوا بالقرب من شجرة مريم الشهيرة، التي يُعتقد أنها نبتت عندما استندت إليها السيدة مريم العذراء. توجد عين ماء مباركة في المنطقة يُقال أنهم شربوا منها وغسلوا ملابس الطفل يسوع فيها.
القاهرة القديمة (مصر القديمة):
كنيسة أبو سرجة: تعتبر من أهم المواقع في القاهرة القديمة، حيث يُعتقد أنها بُنيت على المغارة التي أقامت فيها العائلة المقدسة لفترة أثناء وجودهم في المنطقة.
حصن بابليون: ربما مرت العائلة المقدسة بالقرب من هذا الحصن الروماني القديم الذي كان يمثل مركزًا هامًا في ذلك الوقت.
الفسطاط: المنطقة التي تطورت لاحقًا لتصبح القاهرة. من المحتمل أنهم مروا بهذه المنطقة الناشئة آنذاك.
4. الاتجاه جنوبًا عبر النيل:
المعادي: يُعتقد أن العائلة المقدسة استقلت مركبًا نيليًا من منطقة المعادي (التى كانت تُعرف آنذاك باسم "طرة") للتوجه جنوبًا فى صعيد مصرـ وذكرت بعض الروايات أن كلمة "المعادى" نفسها مشتقة من فعل "عدى" أو "عبر"، مما يعزز هذه رواية مرور المسيح من هذه المنطقة.
مناطق صعيد مصر:
الأشمونين (Hermopolis): مدينة قديمة في محافظة المنيا، يُعتقد أنهم استراحوا فيها.
دير المحرق (Mount Qusqam) بالقوصية: يعتبر من أهم وأطول محطات إقامتهم في مصر، حيث قضوا فيه حوالي ستة أشهر. يُعرف هذا الدير بـ "بيت المسيح الثاني" ويحظى بمكانة روحية عظيمة.
أسيوط (Lycopolis): يُعتقد أنها كانت آخر محطة رئيسية لهم في صعيد مصر قبل أن يبدأوا رحلة العودة شمالًا. توجد مغارة يُقال أنهم أقاموا فيها في جبل أسيوط.
5. العودة شمالًا:
وبعد إقامتهم في صعيد مصر، بدأت العائلة المقدسة رحلة العودة شمالًا عبر نفس المسار أو مسارات أخرى، مرورًا بالمناطق التي زاروها من قبل، وصولًا إلى فلسطين بعد زوال خطر الملك هيرودس.
أهمية المسار
وأوضح الأب دوماديوس أن مرور العائلة المقدسة فى هذه الأماكن أكسبها بركة وقدسية خاصة فى الوجدان المسيحى المصرى.
وتعتبر هذه الرحلة جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وتراثها الروحى، والعديد من الكنائس والأديرة بُنيت فى الأماكن التي يُعتقد أن العائلة المقدسة أقامت فيها أو مرت بها، وتعتبر مزارات هامة للمسيحيين.