طارق الحريرى يكتب: يوميات المترو (4).. عجائب الصدف

السبت، 14 ديسمبر 2019 02:00 م
طارق الحريرى يكتب: يوميات المترو (4).. عجائب الصدف مترو الأنفاق

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

مترو الأنفاق صباح يوم الجمعة عالم ساحر مثلما هى شوارع وميادين القاهرة، المحطات على اختلافها فى جميع الخطوط هادئة، وعربات القطارات نظيفة لا يستقلها إلا ندرة من الركاب، ركبت من محطة مبارك قبل أن تتغير تسميتها إلى الشهداء بعد انتفاضة 25 يناير، كان مشوارى طويلا فى الطريق إلى محطة ثكنات المعادى، ووجدتنى بعد الجلوس قريبا من سيدة أربعينية ومعها ابنتاها فى مقتبل الشباب، تملتكان ندرة نوع آخاذ من جمال المصريات المفعم بالحيوية، لكن الكبيرة كانت ذات جمال ملفت يشع من عينيها الذكاء والإقبال على الحياة، كان الحديث الذى لا ينقطع بينهم يظهر ارتباط البنتين القوى بأمهما.

فى محطة جمال عبد الناصر ركب شاب استل نظرة سريعة نحوهم فى العربة الخالية، ثم جلس عن قصد أمامهم مباشرة بلا تردد، فى منتصف المقعد الخالى الذى يسع ثمانية ركاب، ومنذ لحظة ركوبه لم يخفض عينه عن البنت الكبيرة، التى كانت تبادله النظرات من حين لآخر، كان يبدو عليها الاستنكار فى البداية، لكن فضول حواء قلل من هذا الاستنكار، لم تكن الأم غافلة عن هذا، وأمثالها بما يبدو عليها من يقظة لا يصمتون ويتجاهلون إلى أن يغادر أحد الطرفين القطار وفجأة باغتته:

- بتشبه ولا حاجة ياكابتن.

- لا مابتشبهش ولا حاجة.

- أمال عمال تبص علينا ليه.

- أنا ببص عادى هو فيه قانون يمنع الناس تبص.

- ليه ياخويا هو احنا قاعدين فى فاترينه.

- هو حد قال كده.

- عينك اللى مانزلتش عن البنية.

- دى مش عينى دا عينى وقلبى.

- كتك شكه فى قلبك وعينك.. انت حاتستظرف ولا إيه.

- حرام عليكى دا أنا لسه مادخلتش دنيا.

- خلاص يبقى تتلم وروح اقعد بعيد عننا.

- طيب ألمنى إزاى بعد ماحضرتك بعترتينى.

(تدخلت البنت الصغرى)

- خلى بالك إحنا عندنا رجاله ياكلوا الزلط.

نظرت البنت الكبيرة إلى أمها قائلة ياماما هو احنا محتاجين رجاله يدافعوا عنا.. لو حد قل عقله معايا أنا لوحدى بميت راجل يعنى لو استجرا واحد يتعرض ليا أوريه بالنهار سواد الليل.. إنت مربينا صح ومانقبلش بالغلط.. ومالناش فى العوجان.. أه إحنا ولاد أصول يا أمى إحنا ولاد بلد بجد مش عيره.. وأهلنا معلمين كبار.. فى واقع الأمر لم يكن الكلام موجها لأمها ولكنها كانت رسالة مبطنة للفتى تستعرض فيها طبيعة أخلاقها وتحدثه عن نفسها بعيدا عن تبادل النظرات، لأنها بعد هذا الكلام كانت نظراتها إليه خاطفة وخلسة.. تلقى الفتى الرسالة بفطنة، ولم يفوت الفرصة وبنفس التكنيك الذى استخدمته الفتاة توجه بحديثه إلى الأم: وهى على إيه توسخ أيديها أو لسانها لو اتطاول عليها واحد قليل الأدب ناقص تربية أنا أشتغلها بودى جارد.. ردت البنت بدهاء تصطنع التهكم أه ممكن بودى جارد على ماتفجرج وتلاقى شغله وانت منظرك كده على باب الله.. تلقف من رد البنت الفرصة لتوصيل رسالة مختصرة جدا ودالة جدا موجها كلامه إلى الأم.. بودى جارد طول العمر وأهو الفرن والحلوانى اللى وارثهم عن أبويا بيدورهم المحاسب.

لم تكن مثل هذه الأم ذات الشخصية القوية تسمح أن يستمر الحديث هكذا، بينما هى قنطرة لتوصيل الرسائل بين بنتها وهذا الشاب الجرىء، حتى وإن كان الكلام قد بدأ يأخذ منحنى اتسم بدحرجة المعانى التى يمكن تفسيرها بأنها تفتح الباب لتعارف جاد، لكن يبدو أنها حسبت حسبتها.. ليس هكذا بشغل الشوارع أو صدفة فى مترو الأنفاق.. فمن هذا الغريب الذى يمكن أن تقول له لو لك غاية شريفة تعالى قابل أبوها فى البيت.. لذلك وجهت كلامها للفتى كى تحسم وضع لاهو جاد ولا هو هزار:

- إسمع ياشاطر بلاش رطرطة كلام لا حيقدم ولا حيأخر.. لا إحنا نعرفك ولا انت تعرفنا ولو ماسكتش مش حيحصل طيب.

- أنا ما قلتش كلمه غلط عشان تردى عليا كده.

- طب انت عايز إيه بالظبط.

- عايز رباب.

- انت عرفت اسمها منين؟

- من السلسلة اللى لابسها.

- ما بجوزشى بناتى من الشارع.

- لا اسمعى يا أمى أنا مش شوارعى أنا كنت نقيب فى الجيش واستقلت عشان أتولى ورث أبويا يعنى لو دخلت عتبتكم حا أشرفكم وخلى بالك إنتو حتسألوا وحتعرفوا أن مين وأنا إيه.

ارتبكت الأم وران الصمت على البنات.

- واسمعى يا أم رباب.. رباب أنا شفتها كتير قبل كده من باب مكتبى الفيميه فى الفرن وهى بتيجى معاكى تشتروا عيش فينو وأحيانا جاتوه وهى بالأمارة بتحب "الميل فاى" وانا سألت عنكم الكل قالولى كتاكيتكها دايما فى ديلها.. مايخرجوش وحدهم إلا ورباب رايحة الكلية وسماح رايحة المدرسة الثانوى يعنى رباب أعرفها من غير السلسلة اللى فى رقبتها.

تغيرت نبرة كلام الأم وسألته

- إنت طلعت لنا منين يابنى

- من محطة جمال عبد الناصر( فانفجرت رباب فى سعادة بضحكة مجلجلة).. صدفة.. صدفة أعجب من الخيال.. هو انا كنت حاشم على ضهر إيدى واعرف أنكم راكبين فى القطر ده والعربية دى.. وبصراحة مجرد مالقيت رباب قدامى ماقدرتش أرفع عينى من عليها.. إنتوا نازلين فين؟

- المعادى.

- طيب.. أنا نازل المحطة الجاية..قريب حاتلاقونى عندكم فى البيت مع عمى.

نهض مغادرا وهو يشاور لهم وهم ساهمون نحوه.

واستدار بعد وصوله إلى باب العربة صائحا باى باى يا رباب فشاورت له بابتسامة عريضة.

 










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة