عفاف عبد المعطى تكتب: عواصف يوسف إدريس

الثلاثاء، 14 مارس 2017 07:00 ص
عفاف عبد المعطى تكتب: عواصف يوسف إدريس غلاف الكتاب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم تمض شهور قليلة على صدور كتاب "لماذا تموت الكاتبات كمدًا" للمثقف الفاعل شعبان يوسف بما أثاره الكتاب من نقاشات مطولة أكثرها كان خلافياً، حيث كانت ردود الأفعال المتباينة للأجيال المتعددة التى قرأت الكتاب ومن ثم كانت لها نقاشات كثيرة تجاه تلقى الكتاب وهذا دليل على الثراء الكيفى الذى ضمته موضوعات الكتاب.

 

أقول لم تمض شهور قليلة على صدوره حتى يطالعنا الكاتب شعبان يوسف بكتابه الجديد المهم الأكثر إلغازا "ضحايا يوسف إدريس" بغلاف متميز للفنانة والمبدعة الكبيرة ميسون صقر - وتكمن الألغاز ليس فى محتوى الكتاب فحسب، بل فى شخصية يوسف إدريس نفسه تلك الشخصية التى تعد لغزا كبيرا فى حد ذاتها والتى ظلت ملء السمع والبصر فى الحياة الثقافية العربية لقرابة الأربعين عاما، خمسة عشر فصلا ضمها الكتاب حول يوسف إدريس الكاتب الذى لم يكف عن العراك الثقافى مع جيله أو السابقين عليه وإن كانت أمانة المعلومة والاستشهادات الحية والحقيقية والمطعمة بأحداث فعلية هى التى تحتاج إلى التفاتة وتركيز من القارئ الذى سيجد أن الكتاب لا يتحدث عن شخص يوسف إدريس فحسب، بل عن زمن طويل ممتد، والذى سجله شعبان يوسف ليس على المحتوى الأدبى فحسب، بل على المستوى السياسى أيضا مما منح الكتاب أبعادا وعمقا كبيرين يخرج منهما القارئ بوجبة ثرية تجعله يعرف ما جهله لسنوات طويلة على زمن إدريس بإبداعه وشخوصه وسياسته).

 

كما كتب فاروق عبد القادر، حسب الكتاب، فى كتابه "اليقين المراوغ" فى قصص يوسف إدريس، ما معناه أن يوسف إدريس من الممكن أن يكتب نقدًا، ومن الممكن أن يهتف فى مواجهة عيب ما فى السلطة الحاكمة، ولكنه يعرف جيدًا كافة المساحات المتاحة له، ويعرف متى يقف أمام الخطوط الحمراء، وفى متن الكتاب تفصيلات أكثر عن ذلك، وكما صرخ نجيب سرور فى أخريات حياته فى خطاب موجه ليوسف إدريس، يصفه بأنه صاحب ميل عميق لدى أى سلطة، وذلك تعقيبًا على هرولته نحو السيدة جيهان السادات فقال له "باقة الورد التى أرسلتها لك جيهان السادات لا تستحق منك مقالًا حتى لو كانت زوجة كسرى" مجلة أدب ونقد، ديسمبر .1987

لماذ يوسف إدريس هذا السؤال الذى رد عليه الكاتب الكبير شعبان يوسف ببساطة السهل الممتنع فى مقدمة الكتاب فإذا كان عام 1954 عاما ثريا فى إصدارات القصة القصيرة منها على سبيل المثال لا الحصر "العشاق الخمسة" ليوسف الشارونى، و"عمّ فرج" لنعمان عاشور، و"أرخص ليالى" ليوسف إدريس، ثم توالت على مدى العقد مجموعات قصصية منها "جنة رضوان" لمحمود السعدنى، إلا أن أشهرها كانت مجموعة إدريس بما لها من ذيوع وتناول من النقاد آنذاك ومن الباحثين الأكاديميين ودارسى القصة القصيرة حتى الآن.

كانت مجموعته "أرخص ليالى"، البوابة الكبرى التى دخل منها يوسف إدريس إلى ساحة المجد، وعندها توقف نقاد كثيرون، وكتبوا مقالات ودراسات، وعقدوا ندوات ومناقشات، وبدأت الدولة نفسها تلتفت لهذا الصوت الذى صعد من بين كافة الكتّاب بهذا الشكل (ص 28).

 

يستمر كتاب ضحايا يوسف إدريس الممتع فى القراءة حقا فى ربط العلاقات الشائكة بين يوسف إدريس وأبناء جيله ومن سبقوه من ناحية وبين السياسة من ناحية أخرى وكأن السياسى شعبان يوسف يأبى أن يخرج كتابا من بين يديه إلا أن تكون للسياسة المحركة لكل شىء باعا كبيرا فيما يكتب، فكانت التيارات اليسارية فى ذلك الوقت تعمل على قدم وساق لمؤازرة

1952 بشكل واضح وكبير، وكانت الثورة كذلك وقياداتها يستعينون بكتّاب ومبدعى وصحفيى اليسار فى صياغة خطاب ثقافى مقبول ومستنير وتقدمى، فاستعانت بكتّاب وفنانين من طراز الفنان حسن فؤاد والفنان زهدى والشعراء فؤاد حداد وصلاح جاهين وصحفيين مثل محمد عودة وأحمد عباس صالح، وكان بعض هؤلاء يزاوجون العمل بين المجلات الرسمية، والتى تعلن عن وجهة نظر السلطة أو الثورة فى ذلك الوقت، وبين المجلات الخاصة المستقلة وبالطبع كان يوسف إدريس، الذى كان يضمه مكتب "الأدباء والفنانين" فى منظمة "حدتو"  مع حسن فؤاد، فتنشر له مجلة "الغد" قصة "أبو سيد" فى عددها الأول، كما تنشر له مجلة "التحرير" قصة "خمس ساعات"، ولم يبد أى من هؤلاء الكتاب أدنى تحفظ على ذلك الأمر، إذ أن هناك علاقة نفعية بين الطرفين، والنفعية هنا ليست على المستوى الشخصى، بقدر ما هى نفعية على المستوى الثقافى والفكرى.

 

فى تصورى أن أهم ما فى الكتاب ما قدمه الكاتب شعبان يوسف بدأب الباحث الموضوعى يكمن فى العين الخارجية العادلة التى ترصد ما حدث فى الواقع المصرى السياسى أولا بعد تحول الدولة إلى النظام الجمهورى بعد 1952 بما شمل ذلك من تحركات محسوبة لليسار المصرى والمعدود إدريس عليه، وبين الواقع الأدبى الذى مهد لموهبة إدريس أن تكتسح الواقع الثقافى بشهادة مجايليه أمثال صالح مرسى والدكتور مصطفى محمود وفى عام 1953 برز يوسف إدريس بروزًا كبيرًا، ككاتب القصة القصيرة الأول فى مصر، ونشر عددًا كبيرًا من قصصه القصيرة فى مجلة "روز اليوسف"، رغم أنه كان المشرف على باب القصة فى المجلة، ولكنه كان ينشر قصصًا لكتاب آخرين مثل محمد صدقى ونعمان عاشور ولطفى الخولى وأمين ريان وألفرد فرج وغيرهم، وكذلك نشر قصة لمصطفى محمود، وجاء عام 1954، لتصدر مجموعة "أرخص ليالى"  ثم بعد صدور المجموعة ببضعة شهور يدخل إدريس السجن لمدة غير معلومة، وهنا تنقطع قصصه عن الصحف والمجلات لأسابيع، لتحلّ محلها بشكل مكثف، قصص مصطفى محمود، ففى عام 1954 و1955 نشر مصطفى محمود قصصًا كثيرة فى مجلة "روز اليوسف"، وكذلك كان ينشر بشكل منتظم فى مجلة التحرير،  وفى بعض الأحيان كان ينشر فى مجلة التحرير  مادتين أو أكثر، وكان يوقّع بحرفى م.م، وكانت قصصه ومقالاته تمزج بين الاجتماعى والفلسفى والصوفى والسياسى. (ص 72 )

 

وبالتأكيد فالكاتب الراحل الكبير يوسف إدريس هو أحد الأساطير الكبرى فى عدة أجيال متعاقبة، وقد راح إدريس نفسه يتعامل مع أسطورته على اعتبار أنها حقيقة موضوعية، لا لبس فيها، أسطورة نقية وواضحة وضدّ الزمان والمكان، أى أنها تتجاوز المكان المصرى والعربى، لتصل إلى حدود العالم، فهو الذى طمح ليكون الخليفة الأول وربما الأوحد لأنطون تشيخوف، وقال ما معناه ذلك فى حواره مع غالى شكرى فى كتابه "يوسف إدريس... فرفور خارج السور"،  كان ينظر إلى الكتّاب الذين سبقوه نظرة تستخف بإبداعاتهم، واعتبارها -على بعضها- كتابة رومانسية، وكتابة كانت مخصصة للطبقة الوسطى، بينما كتابة القصة القصيرة لها بعدان الأول: بابتعادها عن الرومانسية المعلقة والمشاكل المجردة وتأسيسها واقعية جديدة بسيطة، والثانى: ارتفاع أسلوبها عن مستوى لغة القواميس والمعاجم الميتة إلى مستوى لغة الشعب الحية المتطورة... ومنذ ذلك الوقت أصبح لأدبه هدف واضح، وأتاحت له "روز اليوسف" أن يواصل السعى وراء هذا الهدف... فاختارته مشرفًا على تحرير باب القصة فيها.

 

وإذا كان كتاب "ضحايا يوسف إدريس" للكاتب والمثقف الدءوب شعبان يوسف قد أسهب بالبراهين فى رصد سياسى وأدبى لزمن طويل يصل إلى نصف قرن من عمر مصر الجمهورية، فإن الكتاب وكعادة كاتبه يقدم مادة خاما للباحثين الأكاديميين للعمل على ما يضمه من أفكار تستحق أن تحتويها رسائل علمية كثيرة سواء على نطاق السياسة أو الادب كلٌ على حدة أم بتضافرهما معا عبر جيل إدريس الذى تلا جيل عصر النهضة، والذى تواكب معه تحول مصر الملكية إلى مصر الاشتراكية مع الحكم الناصرى ثم مصر الرأسمالية مع حكم الرئيس المؤمن الذى كان ليوسف ادريس – حسب الكتاب- المشاركة فى صنع كتبه ومقالاته التى كان ينشرها فى جريدة الجمهورية التى ترأس تحريرها بعد يوليو 52 و طالما دوى وطنطن بأنه كاتبها، لا يقدم كتاب "ضحايا يوسف إدريس" للكاتب المتميز شعبان يوسف مادة خاما للباحثين الأكاديميين فحسب، بل يحمى جزءً من ذاكرة الأمة الثقافية التى تتهاوى بشكل كبير فى ظل انسحاق الثقافة ومحو الذاكرة الثقافية وإحلال كل ما يقدمه الإعلام إيجابا وسلبا للمتلقى، لذا فنوعية هذه الكتابات تنقذ قدرا من ذاكرة الأمة قبل الانسحاق النهائى فى هاوية محو الذاكرة السياسية والإبداعية التى تحدث للوطن بشكل منظم.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة