بالصور.. "اليوم السابع" يرصد مسار العائلة المقدسة" الحلقة الثامنة".. الدير المحرَّق بيت آمن بعد رحلة الهروب الطويلة.. حين بنى المسيح كنيسته الأولى وتلقى يوسف النجار بشارة العودة

السبت، 28 أكتوبر 2017 10:30 ص
بالصور.. "اليوم السابع" يرصد مسار العائلة المقدسة" الحلقة الثامنة".. الدير المحرَّق بيت آمن بعد رحلة الهروب الطويلة.. حين بنى المسيح كنيسته الأولى وتلقى يوسف النجار بشارة العودة  "اليوم السابع" يرصد مسار العائلة المقدسة" الحلقة الثامنة"
تتبعت الرحلة سارة علام – تصوير ماهر إسكندر

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

-حكاية كنيسة قديمة بناها رهبان الحبشة فى الدير المحرق

-  السيدة مريم تكتسى بزى الفلاحات المصريات فى أيقونة «العذراء القروية»

-«أسوار أورشليم» تحيط الدير المحرق من كل اتجاه لتجسد «القدس الثانية»

 

غادرت العائلة المقدسة جبل الطير، وعادت للضفة الأخرى من النهر، وأبحرت جنوبًا حتى نزلت صوب بلدة «الأشمونين» التى كانت تستقبل زوارها بوثن لحصان يصهل، سقط فور أن رأى الطفل المسيح، وتكسرت الأصنام عن آخرها، حتى أن أهالى القرية كانوا يسيرون خلف الركب المقدس فى دهشة كبيرة يهتفون: «لم نرَ مثل هذا الطفل أبدًا».

دير المحرَّق (1)

القس فلوكسينوس أعلى الدير

لم يطل المقام بالعائلة المقدسة بالأشمونين، عادوا لركوب الدواب، وارتحلوا إلى «فيلس»، أولى محطاتهم فى محافظة أسيوط، قرية صغيرة تسمى بديروط الشريف حاليًا، وهناك استضافهم نجار يدعى «ديانوس»، كان لديه طفل مريض، شفاه المسيح ببركته، وتكسرت الأوثان أيضًا، فاغتاظ كبار رجال البلدة، وأرسلوا جنودًا للقبض عليهم.. وصل الخبر إلى أسماع «ديانوس» الذى تمكن من تهريبهم قبل الصباح، حتى وصلوا إلى القوصية، فطاردهم أهل القرية، مما دفعهم للنزوح إلى «مير» القريبة منها، حتى أوحى الله ليوسف النجار بالصعود إلى الجبل الغربى، فتبعهم لصان، أشفق أحدهما على العذراء التى كانت مريضة تتألم، فرد إليها ما سرق، وأمضوا الليلة على الجبل فى بيت مهجور.

دير المحرَّق (4)

دير المحرَّق

أشرقت شمس الصباح على العائلة الصغيرة، رأى أحدهم بئرًا جافة ومهجورة، المسيح يباركها، تعود إليها المياه العذبة مرة أخرى، ها هو المكان صار جاهزًا للإقامة مدة طويلة، لا مطاردات، ولا لصوص، ولا أوثان تتكسر هنا، يوسف النجار يقرر بناء بيت بالخوص وسعف النخيل، البيت الذى سيصير كنيسة، أول كنيسة فى التاريخ الإنسانى كله، تصبح مع الوقت ديرًا عامرًا بالرهبان، نسميه فى أيامنا «الدير المحرق».

دير المحرَّق (3)

الطريق إلى الدير المحرق لم يكن مفروشًا بالأسفلت ككل الطرق التى سلكتها العائلة المقدسة، ولم تر حكوماتنا المتعاقبة دوافع كافية لرصفه أو الاهتمام به كما يجب، أو كما يستحق.. من قرية إلى أخرى وصلنا القرية التى تحمل اسم الدير، فظهرت صلبانه تعانق السماء، بوابة عملاقة وسط سور أثرى يشبه أسوار المدن القديمة تنتصب فى غابة من الأراضى الزراعية، سنعرف لاحقًا أنها أسوار بنيت تيمنًا بأسوار أورشليم، ووفقًا لإيمان الكنيسة، فإن الدير المحرق هو أورشليم الثانية، فمن الطبيعى أن يحاط بسورها الذى يعود للقرن الرابع الميلادى.

دير المحرَّق (6)

سيدة وطفل تباركان داخل كنيسة مارجرجس بالدير

بمجرد أن تطأ قدمك بوابة الدير، سترى صورة كبيرة للأنبا ساويرس، رئيس الدير الذى رحل منذ شهور، وترك خلفه مدرسة رهبانية لا تنضب، تلاميذ من أجيال مختلفة، يسلمون التعاليم الأرثوذكسية التى نقلها لهم المسيح فى المكان ذاته فى القرن الأول الميلادى.

نقابل الراهب القس فلوكسينوس المحرقى، راهب فى منتصف العمر، فارع الطول، لبق اللسان، وجميل الهيئة، يمشى بنا قليلًا، فنرى قصرًا فخمًا يشبه قصور الباشاوات فى العزب القديمة، يسمى قصر رئيس الدير، بنى عام 1910 فى عصر الأنبا باخوميوس، أول رئيس للدير.

دير المحرَّق (7)

ماكيت القساوسة داخل الدير المحرق

فى طرقات الدير، تستنشق هواء نقيًا تشم فيه نسيم العائلة المقدسة التى باركت المناخ كله، فتعطر بأثرها الجو قرونًا طويلة، يقف الراهب فلوكسينوس أمام بوابة صغيرة مرصعة بالحجر، يخلع الناس نعالهم على بابها، هنا الكنيسة الأثرية، أول كنيسة فى التاريخ، هنا عاش المسيح آمنًا مطمئنًا ستة أشهر وخمسة أيام، نام فيها بسلام بعد رحلة هروب شاقة، استغرقت أمه العذراء فى الراحة وأغلقت عيونها ربما لأول مرة منذ غادرت بيتها خائفة، تنقل أمتعتها من قرية إلى مدينة، ومن بر إلى نهر، هنا استطاع يوسف النجار أن يبنى بيتًا لأسرته الصغيرة، وتنفس الصعداء بعدما تمكن من حمايتهم وتحقيق وعد الله، أما سالومى العجوز فاستقرت هنا أيضًا، توقف طيف المشيب فى رأسها بعدما اشتعل بالبياض إثر الركض والقلق.

دير المحرَّق (8)

سيدة تتبارك بصورة العذراء

هنا هدأت العائلة المقدسة، حتى أتى الملاك إلى يوسف يبشره مرة أخرى بنهاية رحلة العذاب تلك.. فى ليلة مباركة كبيرة، خرج الملاك من سمائه وأتى ليوسف فى حلمه حاملًا البشارة «قُمْ وَخُذِ الصَّبِىّ وَأُمّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِىّ»، مات هيرودس، وانقطع عن العالم شر الاضطهاد وجنون المطاردات، سيضع المسيح لبنة كنيسته الأولى هنا، وتبدأ رحلة العودة اليسيرة، لا جبال ولا جحور، لا طرق وعرة، ولا تخفى.

يدخل القس فلوكسينوس الكنيسة، وأمام مذبح الكنيسة الذى يغلق بحجاب خشبى يقف، ويقول: «ها هنا المذبح الذى تنبأ به أشعياء النبى قبل 700 سنة من ميلاد السيد المسيح»، حين قال: «فِى ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِى وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ، وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخْمِهَا»، يفسر القس، فيقول إن الدير يقع فعلًا فى منتصف أرض مصر، ومصر نفسها تقع فى قلب العالم، لذلك فإن بركة المكان تمتد فى العالم كله.

دير المحرَّق (2)

داخل الدير

يوضح القس أن المكان كان بيتًا بالطوب اللبن، عاشت فيه العائلة المقدسة ثم استخدم ككنيسة منذ أواخر القرن الأول، حين جاء المسيح هنا ودشن المذبح مع تلاميذه، وهو المكان الوحيد فى العالم الذى بنى ككنيسة، وطوال تلك السنوات توالت التوسعات والإنشاءات حتى آخر ترميم عام 2000.

فى حجاب الهيكل الخشبى صلبان بيضاء محفورة فى الخشب، وفوقها تلاميذ المسيح الاثنا عشر، حاملو الرسالة، وناشرو الدعوة، وإلى جواره هيكل آخر لكنيسة كانت للرهبان الأحباش الذين سكنوا الدير منذ عقود طويلة، وبنوا كنيسة فوق تلك.

دير المحرَّق (5)

الدير من الخارج

يؤكد القس فلوكسينوس أن الرهبان الأحباش أرادوا أن يعيشوا الحياة الرهبانية فى أورشليم، فلم يتمكنوا من السفر إلى هناك، عاشوا هنا كحل بديل، ومن فوق تطل السيدة العذراء فى أيقونة شهيرة تسمى «العذراء الملكة»، رسمها انسطاس الرومى فى القرن التاسع عشر، رسام قدسى نقش بريشته وألوانه أيقونات خالدة فى غالبية بقاع رحلة العائلة المقدسة الممتدة.

يفتح القس فلوكسينوس بيديه هيكل الكنيسة، يزيح حامل أيقوناتها جانبًا، ويقف فى الموضع الذى باركته العائلة المقدسة، وكطقوس الكنيسة القبطية، فإن الهيكل مغطى بستر قماشى تعلوه صورة للعذراء وطفلها المسيح، جوارها شمعدان نحاسى يحمل الشمعة الأولى، تجاورها شمعة أخرى، تنعكس أضواؤها على أيقونة للمسيح معلقة قرب السقف.. ضوء الشموع يضىء وجه المسيح، ونور رسالته أقوى وأبقى.

دير المحرَّق (9)

مذبح أول كنيسة فى التاريخ

على حوائط الكنيسة أيقونة فريدة تسمى العذراء القروية، أم النور ترتدى ملابس فلاحية، ملامحها تقترب من نسائنا فى الريف، تتغير طلتها الشامية إلى لون قمحى وعيون مصرية، المسيح نفسه يرتدى جلبابًا وكأنه طفل فى قرى الدلتا، وفوقها ثلاثة نجوم يقول القس فلوكسينوس إنها ترمز للبتولية، يشير النجم الأول إلى أنها كانت عذراء قبل الحمل بالمسيح، أما الثانى فيلفت إلى أنها عذراء أثناء الحمل، والثالث يجزم أنها عذراء بعد ميلاده، وتحتها يصطف القديسون، أبوسيفين المبارز الشهيد، ومار جرجس أمير الشهداء سريع الندهة، والأنبا أنطونيوس أول الرهبان، والأنبا بولا أول السواح، ويؤكد القس فلوكسينوس أن اصطفاف الشهداء والقديسين تحت صورة العذراء للتأكيد على أنها أمهم جميعًا.

دير المحرَّق (10)

فى الكنيسة، نقابل الطفلة فلومينا ترتدى ملابس العروس البيضاء، تحملها أمها بعدما نالت للتو سر المعمودية، صارت فلومينا مسيحية رسميًا، بعدما قطعت أمها مسافة طويلة للدير لتنال هذا السر فى أول كنيسة دشنها المسيح، وسر المعمودية هو أحد أسرار الكنيسة القبطية السبعة، تيمنًا بتعميد المسيح شابًا فى نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، يغطس القساوسة الأطفال الصغار بعد ميلادهم ثلاث غطسات فى الماء، بعدما تقرأ الأم صلاة تسمى تحليل المرأة، ويدهن الطفل بزيت الغليون قبل تغطيسه فى الماء، وبزيت الميرون كعلامة على نواله هذا السر المقدس.

دير المحرَّق (11)

طفلة تتبارك بصورة العذراء

نعود لساحة الدير الرطبة، ندخل كنيسة مار جرجس أكبر كنائس الدير مساحة، يقول القس فلوكسينوس إن تاريخها يعود للعام 1881، حيث بنيت على أنقاض كنيسة قديمة، إلا أن أكثر ما يأخذ العين فيها هو حامل الأيقونات الرخامى، وحتى طريقة رسم الأيقونات نفسها، لوحات فنية باللونين الذهبى والأحمر تعلوها آيات الإنجيل محفورة بالخط العربى، تقرأ «رأس الحكمة مخافة الله»، و«المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»، يتدخل الراهب ويقول إن هذه الكنيسة تنتمى للفن البيزنطى وليس القبطى كباقى الكنائس، ورسمها اثنان من أشهر الرسامين القديسين، جوارجى ديمترى ونقولا جوارجى، ويتداخل معها فن الخط العربى أيضًا.

دير المحرَّق (12)

داخل الدير المحرق

نعود لطرقات الدير، القس فلوكسينوس يأخذنا للحصن الأثرى.. طوب قديم، وشبابيك المراقبة الخشبية الصغيرة فى المنتصف، صلبان منقوشة على الجدران، قنطرة تصل ما بين أول الحصن وآخره، يحيطها الخشب من الجانبين، ننحنى ونتبع القس فلوكسينوس إلى الداخل، يقول إن الحصن لا يشبه الطقوس الكنسية فى شىء، طراز حربى لرهبان يخشون هجمات البربر يعود للقرن السابع عقب حصون وادى النطرون، وبنى بعد بناء الكثير من الحصون فى الأديرة، لكنه لم يستخدم أبدًا للحماية فى الدير المحرق.

دير المحرَّق (13)

 

نمرّ فى طرقات الحصن، نتبع القس فلوكسينوس وكأنه دليلنا فى الصحراء، نسير أكثر حتى نستدل على أول سكان هذا الحصن، «ماكيت» خشبى لراهب بملابسه الكهنوتية السوداء، وصليب على صدره ينبض كقلبه، وفى يده قطعة خشبية يتحكم بها فى أبواب الحصن السفلية، ويغلق من خلالها قنطرة العبور بين دفتيه، خلف الراهب حمامة ترمز للعذراء، وسعف النخيل، ذلك الجريد الأخضر الذى استخدمه المقدسيون فى استقبال المسيح عند عودته منتصرًا لأورشليم صباح أحد الشعانين، وعلى اليمين باب آخر لأولى غرف الحصن.. «ماكيتات» أخرى لرهبان مشغولين بعمل اليد، ينسجون من الخوص حقائب وأدوات، إلى جوارها غرفة ثانية وضعت فيها مائدة صغيرة، وحولها رهبان وشيخهم، ككل موائد الأديرة القديمة، يتجمع فيها نسور البرية بعد الخروج من قلاليهم «مساكن الرهبان» المحفورة فى الصخور، ليتناولوا طعامهم معًا يومًا واحدًا فى الأسبوع، وفى الحصن أيضًا كنيسة صغيرة تحمل اسم الملاك ميخائيل، رئيس جند الرب كما يذكره الإنجيل، تسمى كنائس الحصون عادة باسمه، وهو الملاك الحارس، وفى تلك الكنيسة تعلق أيقونته بجناحيه الكبيرين وسيفه وحربته، وتحت قدميه يدوس الشيطان ليهزم الشر، وفى الحصن أعمدة مقلوبة، تيجانها لأسفل، يقول القس فلوكسينوس إن أعمدة الكنائس عادة ما تنتصب هكذا كدليل على هزيمة الوثنية، ومن ثم وضع رموزها فى الدرك الأسفل من الكنيسة يجاور أقدام المصلين.

دير المحرَّق

القس فلوكسينوس وسارة علام محررة اليوم السابع

تغيب شمس الظهيرة عن الدير، ولا ينطفئ نوره أبدًا، يدعونا القس فلوكسينوس لمضيفة الدير، عشرات الزوار يأكلون من مطبخ الدير، طعام مبارك برائحة المسيح وأهله، وحين يحل المساء يشعل الرهبان ضوء الكهرباء فى الدير كله، ويتركون الساحات لنوم قصير فى قلاليهم قبل أن يعودوا لإضاءة شموع التسبحة فى منتصف الليل مرة أخرى.

 








الموضوعات المتعلقة


مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة