إسلام بحيرى

نقد عقلية «لو كان خيرا لسبقنا إليه الأولون»

هل علماء السلف أفضل عند الله من العلماء المعاصرين ؟

الجمعة، 06 فبراير 2009 12:03 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
إحدى أهم العقبات التى تواجه مناهج الإصلاح فى الخطاب الإسلامى المعاصر، هى فوضى المصطلحات، التى خلَّفت قواعد راسخة سدت كل السبل الوسيعة، التى كان من المفترض أن تكون معبدة ويسيرة أمام إرساء هذه المناهج, والقصد بالتأكيد يتوجه لفوضى المصطلحات المتوارثة والمبنية على فهم بلا ضابط، وقواعد بلا أسس.

ولعلنا لا نجد عقبة كؤودا أكبر من مصطلح «فهم السلف الصالح»، أو «القرون الثلاثة المفضلة»، لتقف أمام أى محاولات فردية أو جمعية للتجديد أو الإصلاح, حيث خلَّفت هذه المصطلحات فى عقبها عدة قواعد عقلية خرقاء، مثل «لو كان خيرا لسبقنا إليه الأولون»، أو «ما ترك الأولون شيئا للآخرين»، ومن هذه التراكيب اللغوية وعلى شاكلتها، تبلورت وتأسست قواعد فى مجملها لا تخرج عن هذا النطاق، الذى يجعل من السلف سدنة وحراسا، ومن نتاج عقولهم فهما أزليا أبديا لنصوص الدين، مما رسخ عند عموم العقل المسلم بُغضه لأى تجديد، ورفضه لكل فكرة قد تؤدى إلى فهم مخالف لما سمع، أو فهم، أو اعتقد الأولون من السلف، ما يجعلنا نتساءل: هل الدين هو ميراث أم كسب؟ أو بمعنى مقارب هل الدين هكذا كما جاءنا محملا بشروحه ونقولاته وتفاسيره وحواشيه، هو ميراث لا يجب رده أو تقسيمه أو تعديله قياسا على الإرث المادى، أم الدين كما يفهم العقلاء، هو عملية كسبية متجددة، لا يمكن أن تحد بأُطر متخشبة ومتجمدة, بل هو عملية تفاعلية مستمرة بين النص والواقع قديما وبين الواقع والنص فى الوقت المعاصر.

وكما قلنا فإن هذه القاعدة قامت على فهم للنصوص، كان يجب ألا يتخطى مرحلته الزمنية إلى مئات القرون بعده، وقد ترسخت هذه القواعد فى الوعى المسلم ابتناء على فهم مضطرب لحديث نبوى أخرجه البخارى ومسلم, وقد يستحق هذا الفهم المراجعة والبيان، لما له من أثر فادح ضرب فى الأعماق روح التجدد والمعاصرة فى الإسلام.

الحديث برواية البخارى:
الرواية الأولى:«عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنى ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ». (2652). ومسلم (2533).

الرواية الثانية:«حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُكُمْ قَرْنى ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ لا أَدْرِى أَذَكَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمَاً يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ». (2651) ومسلم (2535).

أولا:
لا يمكن فهم الحديث النبوى إلا فى إطار سياقه اللغوى والدلالى, فالنبى صلى الله عليه وسلم، يحدث بأن خير الناس قرنه، والقرن كما جاء فى «لسان العرب»: « والقَرْنُ الأُمَّةُ تأْتى بعد الأُمَّة، وقيل: مُدَّتُه عشر سنين، وقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاثون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون وهو مقدار التوسط فى أَعمار أهل الزمان، والقَرْنُ من الناس: أَهلُ زمان واحد».

والمعنى المراد دلاليا، يؤكده سياق الحديث، فالنبى يؤكد أن خير الناس هم من كانوا، معه ثم الذين يلونهم، والخيرية هنا ليست بالمعنى الفردى ،وهى أن كل واحد فرد فى ذلك القرن، هو أفضل من كل واحد فرد فى القرن الذى يليه، ولكن المعنى أن مجموع الخير فى قرن النبى هو أكثر من مجموع الخير فيمن بعده، ولكن الإشكالية التى ابتنيت على الحديث ليست مطروحة فيها خيرية الصحابة ليس لاجتناب مناقشتها، ولكن لأنها خارجة عن مناط القول، لأن الإشكالية الحقيقية فى تقديس فهم السلف ليست مع فهم الصحابة للنص، فهم وإن اختلف فقههم وتفاضل، فقد تشربوا من مدرسة النبوة، ولكن الإشكالية مع فهم الجيل التالى لهم، وهو جيل التابعين ومَن بعده إلى نهاية القرون الثلاثة، التى أُسست عليها خطأ قاعدة تقليد فهم السلف الصالح.

ولكن الجدير ذكره ابتداء هو النظر فى تحوير وتحويل معنى الخير فى الحديث، لينسحب على كل شيء، بما فيها الخير فى فهم السلف مما دون الصحابة للنصوص الدينية، وهذا باطل لسنا نعرف مثله فى الإسلام, فما الذى جعل الخير يصبح فى المفهوم من العقول، بل إن أول ثائر على هذا المعنى كان «أبوحنيفة النعمان»، الذى كان يعارضه مخالفوه بقول الصحابة فيرجح بينه، فلما عارضه مخالفوه بقول التابعين قال:« هم رجال ونحن رجال»، وهنا يؤسس هو نفسه للقاعدة الصحيحة ببطلان القول الفاسد إن التابعين ومن بعدهم أكثر فهما أو نظرا أو قربا للحق فى فهم النصوص الشرعية، هذا من ناحية التفاضل المزعوم، أما من ناحية معنى الخير فى الحديث فإنه بالضرورة لا يتخطى السياق النبوى إلى المعنى الذى اختلقه الأولون، فالخير المقصود هو خير عام فى القرن نسبة للزمن, وفى الناس نسبة للدين, بدليل تعقيب النبى على ذلك بقوله فى الرواية الأولى: «ثمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» وفى الرواية الثانية: «إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمَاً يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»، لذلك فالخير المقصود تناقصه هو خير الدين والأمانة, فلا يمكن أن نحمل قول النبى ما لا يحتمل، لأن الخير الناقص فى الدين وليس العلم، كما أن منطوق الحديث ودلالته، يبين أن التنازل قائم بين قرن الصحابة ومن بعدهم، مما يؤكد أن لا عصمة لأقوال القرن التالى، حيث الدين تناقص درجة عند أفراد الناس، ولا يفهم بأى حال أن العقل هو الذى تناقص، فمن أى ناحية اعتقد الأولون أن ذلك الحديث ينصب على أن القرون الثلاثة، التى تكلم عنها النبى هم أقرب للحق والصواب فى فهم الدين عمن لحق بهم، فهذا الفهم مغلوط ومتغالط لا يستند لدليل شرعى أو عقلى.

ثانيا:
بل إن الخير المقصود وهو الخير فى الدين، لم يسلم بالكلية حتى مع قرن الرسول، فالمعنى أنه خير عام فى زمان النبى، وليس خير كل فرد على حده فى زمانه صلى الله عليه وسلم، فقد كان من الأعراب من قال فيهم سبحانه وتعالى: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا»الحجرات 14, والأعراب لا شك صحابة، مما يثبت أن الخير المقصود فى قرن النبى، لم يكن فى كل فرد بل تفاضل أصحاب النبى فى الإيمان والفقه والعلم والمنزلة، وإن كان أصحاب النبى فضلوا عامة، على من بعدهم بشرف الصحبة، فهذا مقبول، ولكن ماذا عمن بعدهم من التابعين،فإن كان الخير فى زمانهم بالعموم أكثر ممن لحقهم، إلا أن ذلك لا يعنى أن الخير فى أفرادهم زائد على الخير فى أفراد من لحقوهم، حتى إن بعض القدماء قد عد التابعين أفضل من عوام الصحابة، كما قال ابن عبد البر، بل إنه عد أمما فى آخر الزمان حسب النصوص المتواترة هم أفضل من صحابة النبي, وقد قارب ذلك ابن تيمية بقوله فى «مجموع الفتاوى»: «وأما الصحابة والتابعون، فقال غير واحد من الأئمة: إن كل من صحب النبى صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصحبه مطلقًا، وعينوا ذلك فى مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز، مع أنهم معترفون بأن سيرة عمر بن عبد العزيز، أعدل من سيرة معاوية، قالوا: لكن ما حصل لهم بالصحبة من الدرجة أمر لا يساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه». (4/527), وهذا ما يعنى أن سيرة تابعى مثل «عمر بن عبدالعزيز»، قد تفوق حسنا سيرة صحابى مثل «معاوية» بالقياس العقلى, فما بالنا بمن ليس لهم صحبة ولا نص، فكيف نقول أنهم أفضل ممن بعدهم دينا وعقلا، فأما الدين فلا يلزم ذلك كل واحد منهم مع الاعتراف بأن منهم الصالحين المصلحين كـ«سعيد بن جبير»، وأما العقل والفهم والنظر فى النصوص فلا نسلم لهم مطلقا بأى أفضلية لم يقرها الشرع، ولا حتى القياس العقلي, فالحق أن من المعاصرين والسابقين عليهم من قد يفوق علما التابعين والفقهاء الأوائل، وعلماء الحديث القدامى علما, وحتى إن لم يوجد ذلك العالم وجودا ماديا فى زماننا، فإنه على الأقل لا يمتنع وجوده عقلا أو شرعا, فليس هناك أفضلية فى العلم للأولين علينا ،ولا أفضلية لآرائهم وفهمهم ونظرهم للنصوص، وإن كانت أفضليتهم التى نقر بها هو قرب عهدهم نزولا من النبع النبوى، فهى أفضلية زمانية قدرها الله لهم تشريفا ولا تعنى بالضرورة أفضلية فى العقل أو العلم.

أما خيرية الدين من بعد جيل الصحابة، فلاريب عند العقلاء أنها ليست بخيرية تقع على كل فرد, فبالقياس نعلم ضرورة أن عوام الناس فى وقتنا المعاصر، بل أفجرهم وأفسقهم وأقلهم حظا من الدين على الإطلاق، لا يدانى من قريب ولا بعيد كفر ولا فسوق ولا فجور «الحجاج بن يوسف الثقفى»، الطاغية السفاح سفَّاك دماء الصحابة والمؤمنين, وقد كان فى قرن النبى نفسه بل إنه وحسب المصطلح يعد للأسف من التابعين، كما أن أكثر الحكام قهرا وجورا وظلما فى زماننا لا يدانى عشر معشار ظلم وفجور وموبقات «يزيد بن معاوية»، فى تملكه على رقاب المؤمنين وسفكه الدماء التى حرم الله، ولوكانت واقعتا الطف والحرَّة فى ميزانه فقط لكفتاه, والأمثلة على تفاضل المعاصرين على من هم فى طبقة التابعين ومن بعدهم فى خيرية الدين لا تحصى, لذا فإن الفهم السائد كما بينا فهم مغلوط لا يقام له من الشرع دليل، ولا من العقل منطق.

ثالثا:
كما أن فهم الحديث بهذا المعنى الشائع، وهو أن القرون الثلاثة الأوائل مفضلة بالإطلاق على من بعدها، هو فهم يولد مشكلة عميقة, فلو قلنا إن النبى فى الحديث قصر الخير فى ثلاثة قرون حصرا، لكان من بعدهم من القرون ممتنع عليه الخير كلية، وهذا بالتأكيد فهم يخالف صريح الآيات والأحاديث الصحيحة المعارضة، فرب العزة يقول: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» آل عمران 110, ولا يمكن تصور أن الخير محصور فى جيل عن آخر من أمة المصطفى, بل هو منثور وموزع فى كل قرن وزمان، إلى أن يرث الله الأرض، ولو قلنا بهذا وحصرناه فى القرون المفضلة كما يدعون، لاتهمنا النص المقدس بأنه نص تاريخى يخاطب فئة من المسلمين دون أخرى, ولهذا فإن توقف راوى الحديث وتردده فى كم مرة قال النبى «ثم الذين يلونهم»، ليس معناه قصر الخيرية فقط على هذه القرون, ولكن تردد الصحابى الجليل كان توقفا وحذرا من قوله على النبى زيادة عما قاله، وذلك من شدة الورع وليس إيماء ولا إشارة لمعنى العدد, وهذا لا يستتبع بالضرورة أن نأخذ ظاهر الحديث كما فعل القدامى، وأطلقوا على هذه القرون تسمية «القرون الثلاثة المفضلة» بل الحق أن التفضيل كان لقرن النبى فقط، وكان كلامه المفهوم سياقا ولغة وعقلا أن التالى من القرون يأخذ فى النقصان حظه قرنا بعد آخر إلى يوم القيامة، وهذا معنى مخالف لما ادعاه القدامى, حيث إن المعنى كذلك أن الأفضلية المقررة كانت لقرن الصحابة وجيلهم بالنص، أما ما يلونهم فهم أقل درجة منهم، ثم الذين يلونهم وليس معنى توقف النبى المصطفى عند الثالثة ،أن تلك القرون هى المفضلة بلا رابع أو خامس بل توقف النبى يفهم تسلسلا لأنه ليس من المعقول أن يظل النبى يعدد القرون إلى ما لا نهاية, ولكن التعدد فى قوله كان فقط لإيراد المثل على النزول هبوطا عن الخيرية درجة فدرجة فى العموم بين القرون المتوالية, ومعنى ذلك أن القرن الرابع أقل درجة ولكن به خير ،وكذلك الخامس وكذلك الرابع عشر، ودواليك إلى يوم يبعثون، ومصداق ذلك ما قاله رسول الله فيما أخرجه الترمذى: «أمتى كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره» (2869), لذلك فلم يكن قصر الخير فى القرون الثلاثة الأولى وتسميتهم« القرون الثلاثة المفضلة« منطقا موفقا من القدامى, بل الحق أن الخير منثور فى كل زمان، وأن الأفضلية لجيل على آخر مما دون الصحابة هى أفضلية متوالية كدرجات السلم، لا تعنى بالضرورة أفضلية مطلقة للقرنين ما بعد قرن النبي، بل تعنى تناقصا مستمرا فى الخير درجة بعد درجة بين قرن وآخر، وذلك بعد القرن الوحيد المفضل بالنص وهو قرن النبى بقوله: «خير الناس قرنى», أما ما يلونهم فهى درجات متناقصة إلى ما لا نهاية، لا يفهم من الحديث على الإطلاق أنها توقفت فى القرن الثالث, لذا فإن القرن المفضل هو قرن واحد, ومن بعده الأمر إلى تناقص، كما أن تناقص الخير لا يعنى على الإطلاق تناقص العقل والعلم، ولا أفضلية لقرن على آخر فى ذلك فكما قال «النعمان»: «هم رجال ونحن رجال».

رابعا:
أما بقية المنظومة القواعدية المنبنية على قاعدة القرون المفضلة، فهى متهاوية إذا ما علمنا معنى التفضيل المقصود كما استوضحنا, وهى الأقوال من نوعية «لو كان خيرا لسبقنا الأولون من السلف إليه»، وكذلك «ما ترك الأولون مقالة للآخرين»، هى بالضرورة نتائج لمقدمات خاطئة فليس هناك دليل واحد من الشرع نصا أن فهم السلف مما دون الصحابة هو فهم له قدسية، أو أن السلف ما تركوا كلاما ولا مقالة تقال من المعاصرين، فهذا زور وباطل، بل الحق أن العلم فى الدين يدور مع الحق ولا يدور مع الرجال، فالحق استوضحه السلف بطرائقهم وآلياتهم وأفهامهم وعقولهم, وللمعاصرين ومن بعدنا فى كل قرن أن يستجلوا الحق فى ذاته بلا تقديس لما مضى ومن مضى، ولو زعم زاعم أن فهم السلف إنما هو منقول عن فهم الصحابة لاتهمناه بالزور فى القول، فمعلوم أن أقوال التابعين ومن بعدهم من أصحاب المدارس الفقهية كانت لا تمثل إلا استنباطات عقولهم متقيدة باتجاههم الفقهى رأيا أو أثرا أو غيره، كما أن عقولهم كأى بشر يشوبها الخلط والنسيان والخرف والتأثر بالعادات والجنوح، وكذلك ممالأة ومداهنة الخلفاء والسلاطين، وقد ثبت كل ذلك عنهم بما لا داعى لذكره، لأن ذلك ليس مناط القول هنا، ولكن التدليل هنا على بشريتهم التى لا تفوقنا إلا فى الخيرية العامة، كما نص الحديث فلا عصمة ولا قداسة ولا تنزيها عن الأخطاء والزلل والغرض والحاجة والهوى والخوف من السيف.

خامسا:
لذلك فإن القول بأن أحكامهم الفقهية أو نقولات تفاسيرهم أو جمعهم للأحاديث، ميراث نرثه مع الدين، هو قول باطل عقلا وعملا، بل الحق الذى تتقاطر به الأدلة على خلاف ما ادعوا، أن علم التابعين ومن بعدهم فى هذه القرون هو علم مفضل على غيره، يلتحق بقداسة من سبقه، والحقيقة التى لا تنكر أن من المعاصرين من قد يفوق الأوائل عقلا وفهما وعلما، وذلك بكل مقاييس العلم فلو قلنا بالعلم التراكمى لفاق المعاصرون القدامى بمراحل عدة، حيث تجمع لديهم علوم الأولين ومن بعدها علوم قرون متطاولة، ولو قلنا بمقياس الشرع لكان كما بينا استنادهم فى أفضلية فهم القدامى استنادا إلى غير شيء، ولو قلنا بمقياس الشمولية لفاق المعاصرون كل القدامى. فالمعاصرون من العلماء والمفكرين والباحثين، يملكون طرائق وآليات للبحث لا تقارن بطرائق الأولين، كما يملكون نظرة أوسع ورؤية أعمق وبعدا كبيرا عن مهالك التحزب والتخندق والتقيد بالدفاع عن مدارس فقهية ومرجعيات عقدية كما فعل السلف، فها هى تفاسير القرآن المعاصرة أفضل مائة مرة من تفاسير الأولين المحشوة بخرافات الإسرائيليات، والآثار الضعيفة، والروايات المنقطعة والمرسلة، وحكايات القصاصين، وها هى أحكام الفقهاء غارقة فى الانتصار لاتجاه صاحب المذهب، والتنكيل برأى المذهب المناقض، وممتلئة بالعرف والعادة والهوى ونفاق السلاطين، وها هى كتب الحديث بلا تفرقة تحتاج تنقيح العقلاء من المعاصرين ،حيث دُس فيها ما طاب من كل الجهالات والخرافات والأحاديث الضعيفة والموضوعة والمعطوبة عن النبى قولا وفعلا وسيرة، وأول هذه الكتب احتياجا للتنقيح هما البخارى ومسلم. لذلك فإن القول بأن المعاصرين أفضل حالا وأوسع بالا من الأوائل هو قول صائب لا ينحو عن الطريق القويمة.

وأخيرا:
فإن مصطلح «القرون الثلاثة المفضلة»، إنما هو مصطلح يحتاج لإعادة صياغة ليصبح «القرن المفضل» هو قرن الرسول، وذلك بنص الحديث وما بعده من القرون هى أفضلية تناقصية، لا تقف كما بينا عند القرن الثالث ،لأن هذا فهم مخالف لدلالة وسياق الحديث النبوي، أما القواعد الباليات التى بنيت على الفهم المغلوط، فإنها قواعد متهاوية، وكما قلنا فى مقالنا «دية المرأة» بأن الشريعة نصا خالصا يقصدنا ويعنينا ويخصنا نحن، فالإسلام ليس ميراثا نرثه محملا بتفاسيره وشروحه وفقهه وحواشيه، بل الإسلام الحق هو عملية كسبية تفاعلية متجددة لكل زمان وقرن وعصر، لأن الحق يدور مع نفسه وليس مع الرجال، وكما قال ابن النفيس: «فرب حق بدا شنيعا, ومألوف كاذب، والحق حق نفسه، ولا لقول الناس له».

والحق أننا نعانى فى عصرنا من المألوف الكاذب، ولأن الحق حق بنفسه وليس لقول الناس إنه حق، لذا فإن المنصفين والعقلاء يضعون آراء الأولين فى مواضعها اللائقة، فكما أصابوا فى مناحى أخطأوا فى أخرى، وكما استوضحوا معانى غابت، وخفيت عليهم معانٍ أُخر، والمقصد من سعينا ليس أن نسلب الأوائل حقا كان لهم، إنما القصد أن نعيد لأنفسنا حقا قديما ضائعا فى حرية تعاطينا مع الشرع بالكسب وليس بالميراث.








مشاركة

التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

أحمد

موضوع لا نتيجة مفيدة من طرحه

سواء نجاح او فشل الهدم

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة