أحمد عبدالمعطى حجازى

لا توحيد مصادر الفتوى ولا تعديدها!

الجمعة، 27 مارس 2009 12:14 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هذه الفوضى الضاربة أطنابها فى مجال الفتوى الدينية، كيف نواجهها؟ وكيف نعيد الأمور إلى نصابها فى هذا المجال المتلاطم المفتوح على مصراعيه للجميع، علماء وجهلاء، مجتهدين ومشعوذين، معتدلين ومتطرفين؟

بل هو للجهلاء والمشعوذين والمتطرفين أوسع وأرحب، لأن أكثر الذين يقحمون أنفسهم فى مجال الفتوى الدينية لا يتفاضلون بعلمهم، بل يتفاضلون بتشددهم وارتفاع أصواتهم، والعالم الحقيقى يكد ويتعب ويسأل نفسه مرات ومرات قبل أن ينطق بكلمة، أما المتطرف فيكفيه أن يرفع صوته ويرهب سامعيه.

ولقد علمنا أن السلطات السعودية أعفت مسئولاً كبيراً فى إحدى الهيئات الدينية من منصبه بعد أن أفتى بتكفير العاملين فى إحدى القنوات التليفزيونية، كما تابعنا ما يدور فى مصر من حوار حول تنظيم الفتوى وتوحيد مصادرها أو تحديدها، ومنع المتطفلين من استغلالها وإقحام أنفسهم فيها.

ولا شك أن الحاجة أصبحت ملحة للوقوف فى وجه هؤلاء ومنعهم من استغلال الفتوى التى يجعلونها وسيلة سهلة للسيطرة على الجماهير البسيطة واللعب بها فى سوق السياسة واستخدامها فى الضغط على النظام السياسى القائم وابتزازه واقتسام السلطة معه، ومن هنا سعى هؤلاء المتطرفون المتاجرون بالدين سعياً حثيثاً لتديين النشاط الإنسانى كله فى بلادنا، بحيث نحتاج فى كل خطوة نخطوها لفتوى، إذا أكلنا أو شربنا، أقمنا أو رحلنا، قلنا أو سكتنا، نمنا أو نهضنا، صالحنا أو خاصمنا، نجحنا أو فشلنا، عشنا أو متنا.. فى كل خطوة نخطوها، وفى كل أمر نأتيه، نحن فى حاجة إلى مرشد من هؤلاء يأخذ بيدنا ويهدينا سواء السبيل، إذ لاحق لنا فى أن نستشير أنفسنا، أو نطمئن لعقولنا، أو ننظر فيما يعجبنا، أو يفيدنا، أو يمتعنا، أو ينفعنا، أو نبنى اختيارنا على أى قاعدة سوى قاعدة الحلال والحرام التى أصبحت وحدها هى القاعدة، فالفتوى على أساسها تجارة رابحة تغرى الكثيرين باقتحام مجالها، لأنها تمنحهم كل شىء، ولا نطالبهم إلا بما يسيطرون به على الجماهير البائسة، قليل من العلم، وكثير من الشعوذة!

هكذا وجدنا الفتاوى تنهمر علينا من فوق المنابر، ومن صفحات الصحف، ومحطات الإذاعة المسموعة والمرئية، تحاصرنا من كل جانب، وتسد علينا الطرقات.فتاوى تحرم الديمقراطية، وفتاوى تحرم العطر، وفتاوى تحرم الغناء، وفتاوى تحرم الراديو، والتليفزيون، والسينما، وفتاوى تحرم التبرع بالأعضاء.

ولقد يفهم البعض مما قلته عن استغلال السذاجة واللجوء إلى الشعوذة أن المشتغلين بهذه التجارة كلهم مضطرون إليها، لأنهم فقراء لم يتعلموا صنعة ولم يدخلوا مدرسة.والحقيقة ليست كذلك، فتجارة الفتوى تجارة مزدهرة تتسع لكل الفئات، والذين أفتوا بتحريم السياحة، ودعوا لهدم الهرم وأبى الهول لم يكونوا فقراء، ولم يكونوا أميين.وقد قرأت قبل سنوات أن أستاذاً من أساتذة القانون أعلن فى مؤتمر لنقابة الأطباء أن الديمقراطية نظام مستورد من بلاد وثنية.

ونحن نعرف هؤلاء الشيوخ الذين لا يتورعون عن معارضة الحقائق العلمية التى لم يعد يجهلها فى العصور الحديثة أحد، فالأرض فى نظر هؤلاء الشيوخ المتخلفين ليست كروية، وهى لا تدور حول الشمس طبعاً وإنما الشمس كما يرونها بأعينهم هى التى تدور حول الأرض، إذ تشرق من الشرق وتغرب فى الغرب، وإذن فكل ما قاله جاليليو وكل من جاءوا بعده من علماء الفلك والطبيعة والكيمياء والأحياء هراء فى هراء.ومن هؤلاء من لا يكتفى بالكلام، وإنما يخرج من الكلام إلى العمل الذى لا يعنى عنده إلا تكفير الآخرين والتحريض على قتلهم.

ومن هؤلاء الشيوخ شيوخ مغرمون بالحديث عن العلاقات الجنسية التى تنشأ بين الجن والإنس، وقد ذكرت بعض الصحف أن واحداً من أصحاب الفضيلة استطاع بما أوتى من قوة روحية أن يخرج جناً بوذياً من جسم طالبة فى جامعة عين شمس وأن فضيلته ناقش هذا الجنى فى العقائد التى كان يؤمن بها وتمكن من إقناعه باعتناق الإسلام.

أنا لم اسم الذين صدرت باسمهم هذه الفتاوى المضحكة، لكنهم يعدون من كبار العلماء فى مصر وفى البلاد الإسلامية الأخرى، وهم إذن ليسوا من المتطفلين على الفتوى الدينية أو على علوم الدين، ولا يمكن بالتالى منعهم من التعبير عن رأيهم فى أى مسألة من المسائل التى يتعرضون لها بالفتوى، فما الذى نستطيع أن نصنعه مع هؤلاء لنحمى المجتمع من شرهم، ونقدم الإسلام للناس على حقيقته التى لا يمكن أن تتفق مع شعوذات هؤلاء وخرافاتهم؟

وإذا كنا نرى أن التخصص فى علوم الدين وتولى أكبر المناصب فى المؤسسات والمنابر الدينية لم يمنعا البعض من التطرف والتعصب على نحو ما رأينا فى الأمثلة التى سقتها فيما سلف، فما الذى سنستفيده من توحيد مصادر الفتوى؟ وماذا نصنع لو وحدنا هذه المصادر فى مؤسسة بعينها سيطرت عليها جماعة متطرفة أو سلطة حاكمة وسخرتها لخدمة أغراضها، ومنعت غيرها من أن يخالفها أو يعترض عليها، وإلا تعرض للعقوبات التى سينص عليها القانون؟

والواقع أن المشكلة التى نواجهها لا تتمثل فى تعدد مصادر الفتوى، وإنما تتمثل فى طبيعة الفكر الدينى السائد، وفى المناخ الذى يسمح بتديين كل ما فى الحياة من فكر وعمل، وتوظيف الدين فى خدمة النظم الحاكمة من ناحية وخدمة الطامعين فى السلطة من ناحية أخرى.

توحيد مصادر الفتوى و إطلاق الحرية لهذه المصادر كى تتعدد وتتكاثر هدفان متعارضان لقوتين متصارعتين تسعى كل منهما لاستغلال الدين وتسخيره لخدمتها، فالموجودون فى السلطة يريدون أن يبقوا فيها أبدا، والطامعون فى السلطة يريدون أن يستولوا عليها غداً، أما نحن فلا ناقة لنا ولا جمل فى أى من هذين الهدفين، لا توحيد مصادر الفتوى ولا تعديد هذه المصادر، توحيدها طغيان، وتعديدها فوضى، ونحن لا نستفيد شيئاً من الطغيان أو الفوضى، وإنما نستفيد من شىء آخر لم يتعرض له هؤلاء أو هؤلاء، وهو إبعاد الدين عن السياسة وإبعاد السياسة عن الدين.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة