مظاهر عناية الاسلام بالطفولة
الحمد لله الذي جعل الإنسان محل تكريمه، وأودع في براءة الطفولة سر جماله وتعظيمه، سبحانه. هيأ النفوس لتكون للقيم محرابا، وجعل الرحمة بالصغير للوصول إليه بابا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه الله رحمة للعالمين، فكان للأطفال أبا رحيما، وللبراءة حصنا منيعا، وللجمال الإنساني نموذجا فريدا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد.
فإن الطفولة في الإسلام هي النبع الحقيقي للحب والحنان في حياة الإنسان، وهي أقدس وأعظم مراحل العمر، إذ هي التربة التي تزرع فيها القيم، وتبنى فيها النفوس، وتصاغ فيها ملامح المستقبل، فالطفولة تعكس أنوار الجمال الإلهي في أبهى تجلياته، فهي نبع للسكينة، ومستودع للرحمة، فبمقدار ما يعتنى بتشكيل وجدان الطفل في المهد، يصعد في آفاق الرجولة، ويصير عنوانا للشهامة والاستقامة، فالطفل في كنف الشريعة الغراء هو الوصلة الروحية الوثيقة التي تربط جلال الماضي بإشراق المستقبل، وإذا كانت المواثيق الدولية قد وضعت إطارا قانونيا لحماية الطفل، فإن الإسلام قد سبقها جميعا، وأرسى حقوق الطفل في تشريع رباني متكامل، يثمر في التربية، ويزهر في الرحمة، ويستثمر في بناء الإنسان، تحقيقا لتلك الأمنية الغالية، والدعاء الخالد: ﴿ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما﴾.
أيها الكرام: إن من حقوق الأطفال على الكبار التي قررها الشرع الشريف، حسن اختيار شريك الحياة قبل أن يولد الأبناء، إذ يقول الجناب المعظم ﷺ: «تنكح المرأة لأربع… فاظفر بذات الدين تربت يداك»، وقال ﷺ: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» فصلاح الأب والأم أساس صلاح النشء وبداية البناء، ثم من حقوقهم أيضا اختيار الاسم الحسن الذي يلازم الإنسان عمره، وقد قال سيدنا ﷺ: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم»، ثم حق الرضاع والرعاية الجسدية التي تحفظ حياتهم وتنمي أبدانهم، قال جل شأنه: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين﴾، ثم حقهم في النفقة صيانة لكرامتهم، وحفظا لمستقبلهم، قال سبحانه: ﴿لينفق ذو سعة من سعته﴾، ثم حقهم في حسن التربية وغرس القيم والإيمان في قلوبهم، قال حبيبنا ﷺ: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، ثم يأتي حق التعليم الذي به تبنى العقول وتنهض الأمم، وقد قال تعالى: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾، ومن أجل العلوم التي يجب على الآباء أن يعلموها لأبنائهم، ويبذلوا في ذلك وسعهم، حفظ القرآن الكريم، وتعليم اللغة العربية، فهذه الحقوق ليست مننا يعطيها الآباء متى شاؤوا، بل أمانات يسألون عنها أمام الله سبحانه وتعالى، وبها تصان الطفولة، ويبنى الإنسان، وتحفظ الأوطان.
أيها المكرم: ألم تعلم أن الجناب المعظم ﷺ كان يجعل من حجره الشريف مأوى لصغار الصحابة، ومن يده الكريمة لمسة حانية تداوي القلوب؟ هل استشعرت يوما كيف كان احتضانه المبارك أمانا للصغار، وكلماته الرقيقة بناء لثقتهم، ورفعة لذكرهم؟ ألم تجد في هدي تعامله مع الأطفال رفعة في أخلاق الكبار، وعظمة لا يدركها إلا الرحماء؟ لقد أقام المنهج المحمدي للأطفال صرحا من الإعزاز، فجعل من الرفق بهم عبادة، ومن مؤانستهم قربة، ومن تقبيلهم رحمة تفتح أبواب الجنان، فالطفل في ظلال الإنسانية المحمدية محاط بمزيج مدهش من الحب والعناية والحماية والتوقير، فكل لفتة حنان هي غرس لقيمة، وكل كلمة طيبة هي تشييد لعقل، فنحن أمام رؤية نبوية مشرقة تسمو بالطفولة إلى مصاف الأولوية القصوى، لتعلم الدنيا أن سيادة الأمم تستمد من جودة بناء صغارها، وأن طهارة المجتمع تبدأ من صون براءة أطفاله، وأن استنقاذ هيبة الإنسان مرهون بتوقيرنا لهذه البراءة الغالية، وبذلنا الغالي والنفيس في سبيل حمايتها، ليبقى الميزان النبوي في رقي الأمم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا».
أيها النبلاء: إن المتأمل في النموذج المعرفي الإسلامي يجد أن الطفولة لم تكن يوما مجرد مرحلة عمرية عابرة، بل هي حالة من النورانية استوجبت من الحضارة الإسلامية أعلى درجات الرحمة والاحتفاء، فقد رسم الجناب المعظم ﷺ معالم هذه العناية، فكان ينحني للصغير حتى يلامس شغاف قلبه قبل أن يلامس يديه، ليغرس في وجدان الأمة أن العظمة الحقيقية لا تكتمل إلا بالانكسار لضعف الطفولة، والرفق ببراءتها، فنحن أمام فقه للجمال يرى في مسح رأس اليتيم، أو ملاعبة «أبو عمير» في طائره، أو إطالة السجود لئلا يزعج ارتحال الحفيد، أو نزولا من على المنبر الشريف حملا لسيدي شباب أهل الجنة، وهي أصول وقواعد لبناء إنسان سوي، يمتلئ قلبه بالثقة، وروحه بالسكينة، فتخرج من كنف هذه الرحمة أجيال تحمل للعالمين مشاعل النور والاستقامة، ليظل هذا المشهد المحمدي حاضرا في كل وجدان في ضوء قول سيدنا صلى الله عليه وسلم: «إني لأقوم في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه».
أيها المكرمون: اعلموا أن الطفولة تتوقف عندها الأحكام، لتتحول في ميزان الشريعة الغراء إلى ولاية رحمة، لا ولاية قهر، فللطفولة فقهها الخاص، وأحكامها الاستثنائية، وقد رفع عن الصغير القلم تشريفا لا تهميشا، وجعلت ذمته المالية مستقلة صيانة لغده، وصار حقه في اللعب والابتهاج حقا يتقدم على النوافل والمستحبات؛ ليكون الطفل في نهاية المطاف الوصلة الروحية التي تجعل من الأسرة محرابا، ومن الأبوين ورثة للأنبياء في الرعاية والإرشاد، عملا بمنطق الوحي الذي جعل التوجيه في الصغر الاستثمار الأبقى في بناء الإنسان وصناعة الحضارة، ويقينا بما قاله الإمام الغزالي رحمه الله: «الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، وهو قابل لكل ما نقش عليه».
*******
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن إدمان الألعاب الإلكترونية يمثل اليوم خطرا يضرب أركان الوعي لدى الأطفال، فيعمل على تشتيت القدرة على التركيز، ويورث حالة من الانغماس الكلي، والضحالة الفكرية، فيحصر الذهن في ملاحقة الصور المتلاحقة، والنتائج اللحظية، ويجعل العقل يكتفي بالقشور والظواهر العبثية، فتغيب عنه مهارات التفكير والإبداع التي هي أساس الشخصية المتزنة، فنحن- مع تلك الألعاب الإلكترونية- أمام عملية تسطيح ممنهجة تحول الطفل من باحث عن الحقيقة، ومحب للعلم، إلى متلق سلبي تأسره الأوهام الرقمية، والأحلام الافتراضية، وتمثل قمة الإضرار بعقله، قال الجناب المعظم ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار».
أيها النبلاء: احموا قلوب أبنائكم قبل أن تقسو، واغرسوا في أرواحهم أنوار الرحمة المحمدية بعيدا عن ظلمات العنف الرقمي، ليكونوا أداة تعمير لا تدمير، ومصدر رفق لا قسوة، فالألعاب الإلكترونية التي تقتات على العنف في المواجهة تزرع في وجدان الطفل ميولا عدوانية تناهض الفطرة السليمة، وتجعل من القسوة أسلوبا للتعامل مع العالم المحيط، فالتكرار المستمر لمشاهد الصدام يؤدي إلى تبلد الحس، وموت ملكة الرحمة، فتتسلل بذور العنف إلى القلب، لتنبت جيلا ينظر إلى الآخر من خلال منظار الصراع، بعيدا عن أفق التعاون والتراحم، فحماية أطفالنا تقتضي منا إدراك أن هذه الألعاب تعيد صياغة السلوك الإنساني ليكون أقرب إلى الآلة الصماء منه إلى الإنسان الذي يعمر الأرض بالرفق والسكينة والمحبة، فالله الله في ذرياتكم، واستجيبوا لأمر ربكم إذ يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا﴾.
اللهم احفظ أبناءنا من كل مكروه وسوء