كيف تستعيد الكرة المصرية ريادتها؟.. هذا التساؤل نردده كثيرًا خلال السنوات الفائتة، في شغف كبير للبحث عن الأيام والليالي الحلوة التي عشناها مع الجيل الذهبي للمنتخب الوطني تحت قيادة المعلم حسن شحاتة، خلال الثلاثية التاريخية لأمم أفريقيا أعوام 2006 و2008 و2010.
لا يفارق ذاكرتي أبدًا ذلك المشهد الذي عشناه جميعًا، شوارع المحروسة وهي تتزين بأعلام مصر، والفرحة تتصاعد من كل زاوية، رقصات هنا وزغاريد هناك، وكأن الوطن كله يبتسم في لحظة واحدة، لم يكن هناك ما هو أكثر سحرًا من هدير الجماهير المتحمسة، سواء في المدرجات أو أمام الشاشات، وكأن نبضهم واحد يهتف باسم بلدنا.
المصريون لا يشجعون كرة القدم فقط، بل يتنفسون انتماءً، وعندما يرتدي منتخبنا القميص الوطني، يذوب كل اختلاف، أهلاوية وزمالكاوية، الجميع يلتف في ثوب واحد اسمه "مصر"، هناك فقط تظهر المتعة الحقيقية، حين يتحول التشجيع إلى حالة وطنية خالصة، وحين يقف الشعب كله خلف لاعبيه ليحملوا اسم البلد عاليًا في كل محفل دولي.
المذكور أعلاه لم يكن حلمًا، بل كان واقعًا عشناه ونتذكره ونتحسر عليه، فمنذ عام 2010 ونحن غائبون عن المشهد، ولم نذق طعم البطولة، وظلت منتخباتنا بجميع أعمارها السنية تعاني وتقدم مستويات تُدخل الحزن إلى قلوبنا، بما يؤكد أن هناك شيئًا ما خاطئًا في التخطيط للكرة المصرية، ولعل ما شهدناه في تجربة المنتخب الثاني خلال مشاركته ببطولة كأس العرب 2025 خير مثال على ذلك.
هنا أطرح القضية في محاولة لدق جرس الإنذار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل الاستحقاقات الكبرى التي تنتظر منتخبنا الوطني الأول بقيادة حسام حسن، سواء في بطولة أمم أفريقيا 2025 بالمغرب خلال شهر ديسمبر الجاري، أو في بطولة كأس العالم 2026.
لن أتطرق إلى الحديث عن الخلاف بين جهاز حلمي طولان في المنتخب الثاني وحسام حسن، لأن سقوط كرة القدم المصرية في أي اختبار لا يدفعنا للسؤال: لماذا سقطنا؟ بل إلى السؤال الأهم: متى سنقف من جديد؟
من هذا المشهد، يجب الاعتراف بأن الكرة المصرية تمر بمرحلة طويلة من التراجع: تراجع في أداء المنتخبات، وضعف في منظومات الناشئين، وقرارات إدارية متخبطة، مع غياب مشروع وطني شامل يعيد صياغة مستقبل اللعبة، كما رأينا في تجربة المغرب الشقيقة.
إذن نحن الآن في مفترق طرق، ونحتاج سريعًا إلى تحديد جذور المشكلة، ثم رسم خارطة طريق وحلول واقعية تُعيد للكرة المصرية هيبتها وريادتها، وبمعنى أدق، نحن بحاجة إلى تشخيص الأزمة ووضع روشتة العلاج.
أما التشخيص، فهو يكاد يكون معلومًا للجميع، فنحن نعاني على سبيل الأمثلة من:
-إدارة بلا رؤية ولا استمرارية.
-مجاملات ومحسوبية وفردية في اختيارات مدربي المنتخبات الوطنية.
-دوري محلي بلا جودة تنافسية.
-انهيار منظومة الناشئين في المنتخبات والأندية.
-غياب فكرة صناعة مدربين وطنيين دارسين.
هذه مجرد نماذج، فهناك أمور عديدة أخرى تحتاج إلى فنيين ومتخصصين لوضع روشتة كاملة لعلاج أزمات الكرة المصرية، بدلًا من العيش على المسكنات كما يحدث في واقعنا الراهن.
بهذه المناسبة، أتذكر العجوز أوسكار تاباريز، صاحب واحدة من أهم التجارب في تاريخ كرة القدم الحديثة، عندما تولى قيادة منتخب أوروجواي عام 2006، واضعًا شرطًا واضحًا لاتحاد الكرة في بلاده: منحي كل الصلاحيات على المنتخبات الوطنية دون استثناء، فوحد طرق اللعب، وفرض نظامًا صارمًا لتطوير الناشئين، وبدأ يحصد ثمار مشروعه عامًا بعد عام حتى أعاد بلاده إلى منصات المنافسة والألقاب.
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان تجربة الراحل "الجنرال" محمود الجوهري، الذي تولى منصب المدير الفني لاتحاد الكرة المصري عام 2007، وقدم وقتها خطة مكتوبة كانت بمثابة "الخلطة السرية" لوضع الكرة المصرية على طريق العالمية.
اعتمدت خطة الجوهري على ضرورة البناء من القاعدة، والاهتمام بالنشء الصغير لإعداد منتخبات شابة قادرة على التأهل للبطولات العالمية والمنافسة فيها، وإنشاء دوري للفرق تحت 23 عامًا، لكنه واجه حربًا شرسة من بعض أعضاء اتحاد الكرة وقتها، وتم رفض مشروعه بحجة التكلفة وضعف الجدوى، حتى اضطر الجنرال إلى الرحيل للعمل في الأردن، حيث صنع هناك طفرة كبيرة أثبتت قيمة أفكاره.
السؤال الآن: هل كانت التكلفة فعلًا هي العقبة؟ أم أن غياب الرؤية هو ما قتل مشروعًا كان يمكن أن يغيّر مستقبل كرة القدم المصرية؟
إن "الروشتة" التي يحتاج إليها اتحاد الكرة الحالي تبدأ من العودة إلى أفكار الجوهري، وتعيين لجنة فنية مستقلة لمنتخبات الناشئين تُمنح كامل الصلاحيات دون تدخل، مع إزالة كل المعوقات القديمة، خصوصًا المجاملات والمحسوبية التي أهدرت جيلاً كاملًا من المواهب الحقيقية وأخرجت مصر من الخريطة التنافسية.
نحن بحاجة إلى مشروع يخلق جيلًا جديدًا من المواهب، على غرار نجمنا العالمي محمد صلاح، يتم تصديرهم إلى الدوريات الأوروبية ليكونوا واجهة مصر الكروية، إذا تحقق ذلك، يمكن أن نرى الحلم يعود من جديد، وتستعيد الكرة المصرية مكانتها الطبيعية بين الكبار.
الخلاصة تكمن في أننا بحاجة إلى عدة خطوات لإعادة الهيبة والريادة إلى الكرة المصرية، وذلك من خلال خطة وطنية شاملة تمتد على ست سنوات مثلًا تشمل:
-مشروع يبدأ من الناشئين وينتهي بالمنتخب الأول، مع هوية لعب موحدة وصلاحيات كاملة للمدربين.
-لجنة فنية مستقلة لإدارة المنتخبات السنية، غير قابلة للتغيير أو التدخل الإداري.
-دوري منتظم وملاعب على مستوى عالمي، مع تقليل عدد أندية الدوري الممتاز لضمان المنافسة.
-اكتشاف المواهب في المحافظات وإرسال أفضل اللاعبين للاحتراف المبكر في أوروبا.
-تطوير المدربين بالتركيز على إعداد لاعبين للمنتخب الأول، وليس النتائج القصيرة الأمد.
الأهم من كل ذلك هو العمل بضمير، مع متابعة دورية ومراقبة صارمة لضمان الالتزام بالخطة وتجنب العودة إلى المسكنات التقليدية، فإذا أردنا إعادة بناء الكرة المصرية من جذورها، فإن الأمر لا يحتاج إلى خطابات أو وعود موسمية؛ فالعودة ليست معجزة، لكنها تتطلب خطة ثابتة لا تُهدم كل عام.
هذه ليست مجرد لعبة، بل هي "إكسير الحياة"، كما يقولون، وزرع الانتماء لدى الملايين من عشاقها، وكأنها آلة مسحورة تسحب العقول. إنها قصة وطن، وحان الوقت لكتابة فصل جديد منها، واستعادة الريادة، وصنع جيل يليق بتاريخ مصر ويعيد علمها إلى منصات التتويج.
فهل آن وقت العودة؟.. نعم، إذا امتلكنا الشجاعة وبدأنا العمل الجاد اليوم.
مصلحة مصر من وراء القصد.