محمد حبوشه

لماذا لا تحصل نجاة على جائزة الدولة التقديرية؟!

الجمعة، 11 أغسطس 2023 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

مما لاشك فيه أن نجاة الصغيرة، هى سيدة المشاعر والأحاسيس الدافئة الجميلة التي تنساب مع صوتها وأنت تحلق معها في عوالم سحرية نابضة بالحب والحنان، وكما هو معروف فالحب هو حياة القلوب، وما أروع العيش وأنت تغوص معها في ضوء حبك وتطير على جناح صوتها في نسيم هواك كفراشة تبتسم وتنثني بين الصخور، كصبي يلهو وراء الفراشات الملونة، تغنت (نجاة) بأجمل ما قيل عن المشاعر والأحاسيس، وحتما فإن الحب لا يحتاج إلى رص كلمات ولا حفظ مقطوعات وأشعار وإنما يحتاج الصدق في المشاعر إذا تعثرت و تلجلجت في حديثك مع من تحب إعلم أنك تعشقه حد الخيال وأنت تردد كلمات أغنياتها التي تسمو بمشاعرك عاليا، فالحب مشاعر وليس كلمة، والحب من أكثر ما يسعد الشخص في حياته، وهو لا يعرف المتعلم من الأمي بل يعرف القلب الذي يتدفق منه المشاعر والأحاسيس الجياشة على طريقة (نجاة) التي بمقتضاها يرى المُحب محبوبه حيث يجد الدنيا تفتح ذراعيها له ويجد المشاعر تتحرك والأمواج تتلاطم ويقف لسانه عن الحديث.

 

تطل عليك (نجاة) دوما في صباح عفي بثغرها الباسم ويبدو وجهها الوضاء تشرق شمسه، حيث يعلو جبينها البشر والسرور لتنشر الدفئ والنور فتغرد كالطيور، وتبدو في كل حالتها عاطفية جدا كمعطف شتاء ملتف حول جسد نحيل يتشرب منه الدفئ يتمنى أن يعيش معه حياة أفضل بلون أزهى بعيد عن الرماديات وقطع الجلد البالية، فتلك النبرة الحنونة و المميزة جدا في صوتها تأخذ الوجدان و تبهج القلب، وهنا نحلق مع أغنياتفي لحظات من السمو والرقي، تلك الحالة هى التي شكلت أحاسيسنا منذ الطفولة وحتى اليوم.

 

صوتها الناعم الدافئ يشعرك أن صاحبته تنعم بالسلام النفسي والهدوء الكافي لتغرد بذلك الصوت العذب فتطرب له الآذان وتخضع له الروح في سكينة وهدوء، حملت في أغانيها شجنا وحزنا لم يكونا شيئا من العاصفة والدمار بداخلها، ومع صوت (نجاة) وأنت تهيم في دنيا الخيال والأحلام يمكنك أن تبث أشواقك إلى محبوبك كأسراب الطيور التي تبحث عن دفئ المشاعر وترتوي بماء الوجود، وحتما ستقول له: أشتاقك شوق الصحاري للمطر، شوق الليالي للقمر، شوق الثلج يلقى الدفى، أشتاقك بعد سموم الصيف تنتعش بربيعك، ومن ثم تتساقط أوراقك بالخريف وعندما يحل الشتاء فقط تستكن وتبحث عن الدفئ.. هكذا هى الحياة مجرد حلم.. وهى تدعك قائلة اقترب مني فالرحيل الطويل أفقدني الدفئ وبدأت أشعر بالبرد.

 

وعلى إيقاع نبراتها العذبة الدافئة حتما ستقول بينك وبين نفسك: بقربك أن أصبح أسعد مخلوق في هذه الدنيا وأفضلهم حظا على الإطلاق، دعني أتنفسك، فحبك يهيمن على إحساسي ويصيب قلبي برعشة لا تنتهي، قد يكون التعود أكثر وجعا من الحب، فحين نحب يمكن أن ننسى، ولكن إن اعتدت على أحد لن تتخلص منه بسهولة، خاصة إذا كان الاعتياد على إيقاع صوت (نجاة الصغيرة).. فكيف إذا اجتمع الحب والاعتياد في قلب شخص عاشق لفنها الغنائي الأصيل، وهذا ما يحدث لنا جميعا مع كل أغانيها، فهى صوت الحب فى زمانها.. وفى زماننا.. وفى كل زمان.. هى القادرة أن تمنحك طاقة إيجابية تواجه بها عبث الحياة.. وقادرة أن تجعلك تشعر بجمالها، وقادرة على خلق قلب جديد بين ضلوعك يعرف معنى جديدًا للحب والحياة.. ولا أحد يستوعب ذلك إلا عشاق صوتها.. القادرون على تمييز الجمال.. وتمييز النقاء.

 

صدق الحب يأتي من صدق قلب (نجاة) حين تبث إليك المشاعر كأنك من أوجدها، تفضل البقاء بجوارها تستمتع بدفئ صوتها وكلماتها التي تنساب في عذوبة على لسانها، وعلى الرغم من ارتدائك معطفا فاخرا يقيك من برد هذا الأيام الشتوية، إلا أنه يبقى عاجزا عن أن يمنحك دفئ المشاعر الفياضة من نهر إبداعها المفعم باللألئ والأصداف من كلمات راقية وموسيقى آسرة وصوت يجلب المحبة والحنين، ويبقى دفئ المشاعر عبر صوتها قريبا من قلبك ونبرتها محفوظه بذاكرتك، لأنها تملك القدرة على أن تلتحف الدمعة و تغفو مع الأحزان، وهذا في حد ذاته إحساس جميل كله دفئ يمر عليك وأنت تبتسم وتقول: الله على هذاك الإحساس.

 

بصوتها الدافئ وإحساسها الذي طالما أطرب الملايين من محبيها، أطلت نجاة الصغيرة مع بداية عام 2017 ببريقها المعهود، لتبوح من جديد بكل ما تركه غيابها من شجن وطرب وحنين موسوم بألق الأصالة التي كرسها بكل جدارة صوت قيثارة الغناء العربي الحديث، ولم تعد نجاة الصغيرة، بالضبط، إلى الغناء، في مفاجأتها (كل الكلام)، بل أرادت، ربما، إطلالة مغايرة، بالصوت فقط، لتكون خير شاهد على زمن الرداءة الوفيرة في الوقت الراهن، من زمنها هى، وقد كان وقتا ذهبياً للأغنية العربية، ولكن كل ذلك لا لشيء إلا لنسمع نجاة تغني في عامها الثمانين، لنراها بكامل ناقتها التي نعرف، وبدفء حضورها البديع، وبشبابها الذي لا يغادرنا أبدا.

 

صوتها لا يشيخ رغم عوامل الزمن وغبار السنوات العجاف في شكل وملامح الأغنية الحالية، بل يبقى مقيما على الحنان الغزير فيه، وعلى التمهل المطبوع به،  فمن منا في وسعه أن يعتزل السماع إلى (صاحبة السكون الصاخب)، كما وصفها محمد عبد الوهاب، ولم يكن موفقا تماما، وظل الأجمل من كثير لقبت ووصفت به تسمية كامل الشناوي لها أنها (الضوء المسموع)، فصوت نجاة مضيء حقاً يبعث فيك عندما تسمعه بعض نور في حواشيك، أيا كان مزاجك، والحقيقة أن سماع هذه الأغنية  - في وقتها - كان يستثير في الوجدان والروح رغبة بالسفر إلى كل نجاة الصغيرة، ولما كانت من كلمات الراحل عبد الرحمن الأبنودي، فذلك ما قد يأخذنا إلى (عيون القلب) أيضا، بل إلى كلمات الأغنيات عندما يكتبها شعراءُ مجيدون، ولا نظن أن نزار قباني جامل نجاة، عندما قال إنها الأفضل من بين الذين غنوا قصائده، وعبّروا عنها، وأكد الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، أن نجاة قادرة على المشى فوق الماء والمشى فوق الأرض دون أن تطأ أقدامها تراب الأرض، فهى إنسانة بقدر ما هي فنانة علمها الفن شدة الحذر فكل شطر وكل كلمة وكل حرف لابد أن يمر عبر فهمها للعاطفة.

 

ثمّة حنان خاص في صوت نجاة، لا تزيّد (أو لا شطط)، وعلى أغلب الظن هنا إن مقاديره الوفيرة لم تتوفر عند غيرها، ومن غريب في سيرتها الفنية أنها كانت كلثوميّة الهوى، وأنها، في طفولتها وصباها الأول، كانت تقلد أم كلثوم، وتشتهي أن تصل إلى شهرتها، غير أن صوتها لا يناسبه أن يصير كلثوميا، فليست (القوة) من خصائصه وميزاته، وإنما البساطة اللينة، الأقرب إلى فيروزيات بعيدة، لذا تبقى نجاة الصغيرة وتظل خيط حرير في نسيج الفن المصري العربي، يعود في أصالته وصدقه إلى مرحلة عربية كان فيها الفن أو الكثير منه يشبه خبز الفقراء واستراحاتهم الهانئة في الغناء والموسيقى والمسرح بعد عناء العمل، والبحث عن اللقمة الكريمة، وعرق الإنسان الذي يعتز بكرامته وكبريائه، ورغم أنه يعود إلى بيته منهكا وضعيفا أحيانا، إلا أن الفن كان يساعده على التمسك بقوة روحه وإرادته وحياته التي تستحق أن تعاش.

 

عرفت نجاة الصغيرة الكثير من الملحنين الذين لحنّو لها أغانيها، وتعاونو مع كل الصفات التي اتسم بها صوتها، وقدرتهم على فهمهم لقدرات صوتها وإخلاص كل منهم في وضع نغماته المعبرة في الألحان التي أدتها لكل منهم، وأكثرهم تتويجا لموهبتها شقيقها (عز الدين حسني)، الذي يعد أول من لحن لها، وهو واحد من الملحنين الكبار الذين تنتمي ألحانهم إلى الطرب الأصيل، وفي نفس الوقت جاءت مواكبة لإيقاع عصر الرصانة اللحنية، ولحن عز الدين حسني عدة أغاني لنجاة الصغيرة كان أهمها: (أنا عايزة ألعب وأغني، أنا ما زلت أهواه، حبيبي يا الله، غني يا كروان، هلال العيد،على طرف جناحك يا حمام).

 

نجاة قيثارة الغناء التي نحتفل بعيد ميلادها الـ 85، هى صاحبة الصوت الملائكي الذى علمنا معنى الحب مختلطا بعذوبة ساحرة تأخذنا للحنين والشوق وترتقى بمشاعرنا قبل مسامعنا فتحرك وجداننا نحو الرحب بقدرة رائعة لا تقل عن قوة صوتها رغم رقته مثل اسمها الذى اقترن بالصغيرة وهى كبيرة بفنها وصدق إحساسها لتشعل بأغانيها في الخمسينيات من القرن الماضي مشاعرمستمعيها من جمهورها العريض فى مصر والعربي، ولقد كان لظهور نجاة فى العصر الذهبي للموسيقى والفن أصدق دليل على نجاحها، ليؤكد استمرار تميزها بين جيل من الأصوات الذهبية فى مقدمتهم كوكب الشرق وعبد الحليم حافظ وليلى مراد وشادية وفايزة أحمد، ولكنها استطاعت أن تجد لنفسها مساحة خاصة متميزة ببصمتها، ومدرسة غنائية لم يستطع أحد أن يكررها أو حتى يقلدها ولما لا وجينات الإحساس بالفن فى دمها حيث والدها الدمشقى الأصل محمد كمال حسنى البابا والذي اشتهر بفنه كخطاط، وعمها  الفنان السورى أنور البابا، كما أنها الشقيقة الكبرى للفنانة سعاد حسني.

 

لقبها نزار قباني بسيدة القصائد  العربية، وكانت بداية أول قصيدة غنائية لنجاة مع  الشاعر نزار قبانى هى قصيدة (أيظن)، وكانت أيضا أول قصيدة مغناة له وفى الحقيقة لم يكن وقتها يتوقع نزار أن تتحول قصيدة إلى أغنية بل الأكثر غرابة بالنسبة له أنه لم يتوقع نجاحها على مستوى الوطن العربي ويتغنى بها جميع  الفئات والشرائح وألا تقتصر كلماتها على النخبة من المثقفين، بل انتشرت حتى وصل نجاحها إلى الصين حيث كان وقتها  يشغل منصب دبلوماسيا لسفارة دولته فى بكين وفوجئ بكل هذا  فما منه إلا أرسل خطاب عتاب برقي  كلمات الشعراء يطالب نجاة أن ترسل له نسخته  باعتبار واعتراف أبوته لأول مولود من قصائده  يتغنى وإذا كان هو والد وأب هذا الإبداع فنجاة بصوتها هى الأم والمنبع الذى احتضنته وراعته بإحساسها حتى وصلت كلمات القصيدة وتغللت بكل ما تحمله من مشاعر وتجسدت فى صورة حية أحيت قلوب كل مستمع، وفى ختام الرسالة كان مداعبا مهددا بغزل ورفق يعكس دوما احترامه وتقديره  للمرأة مطالبا نجاة إذا لم ترسل (الكاسيت) سوف يرسل لها إنذارا ببيت الطاعة

 

كما تغنت نجاة بقصيدة (لا تكذبي) للشاعر  كامل الشناوى، وكانت جميع ألحان تلك القصائد لموسيقار  الأجيال محمد عبد الوهاب، وكان آخر هذه الأغاني والتي لن تكون الأخيرة مما قدمته من أغانى (كل  الكلام قولناه) التى قدمتها عام 2017، كلمات  الشاعر الراحل الخال عبد الرحمن الأبنودي، وألحان طلال، وحرصت نجاة طيلة دائما أن تكون مواطنة فعالة في بلدها مصر التي تعرضت خلال السنوات القليلة الماضية لحالة عدم استقرار، حيث شاركت في العملية الانتخابية الأخيرة بسعادة وتفاؤل كبيرين، معلقة بالقول: إنه لا يجب أن ننظر إلى الوراء، وإن مصر ستكون جوهرة العالم، ومن أجل مامضى أرجو مرة أخرى أن تلفت وزارة الثقافة لهذه الفنانة العظيمة بتقليدها جائزة الدولة التقديرية، أو قلادة النيل جراء عطائها النادر، كما أنها الوحيدة الباقية من زمن الفن الجميل ورمزا من رموزه الرائعة في مصرنا الجديدة.

 

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة