نشوى رجائى السماك تكتب: العهد

الخميس، 06 سبتمبر 2018 02:00 م
نشوى رجائى السماك تكتب: العهد صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بداخلى تلك الطفلة التى لم أشعر يوما أننى أصبحت شخصا غيرها، تغيرت الملامح وصارت على الجسد قوانين الزمن لتتشكل امرأة عشرينية ثم ثلاثينية ولعله فى الغد تتشكل امرأة أربعينية ثم خميسينية، من يدرى.

صرت طبيبة تستطيع تحمل مسئولية إنقاذ أرواح البشر، تفحص مرضاها، تشخص أمراضهم وتصف لهم العلاج، لكن تلك الطفلة التى لم تغادرنى ولم أفلتها، تتسلل دائما لتكون حاضرة معى بطفولتها فى أكثر المواقف جدية فربما يجدها مريض فى عينى طبيبته تقفز لتربت على قلبه بيدها الصغيرة أو يجدها تضع كفيها فوق عينيها لأنها لا تستطيع النظر إلى الدم، أو ربما يجدها حاضرة فى ابتسامة تحثه أن يسابق فراشات الربيع وأن يقبض على مخاوفه بيده، يطوح ذراعه قدر استطاعته ثم يقذفها بعيدا وهو يغنى للشمس يطلب منها أن تأخذ هذه المخاوف وتبدله أغنيات جميلة مكانها مثلما كان يطلب منها أن تأخذ أسنانه اللبنية لتبدله أسنانا قوية.

 

أذكر ذلك المريض الشاب الذى جمعنا حوله كبير الأطباء فى القسم الذى أعمل به فى المستشفى، فقد كان أستاذى يجرى له عملية جراحية صغيرة لإنقاذ حياته لكنها مؤلمة بشكل واضح بالرغم من البنج الموضعى الذى تم حقنه به. 

 

يبدو أن المريض ضبط الطفلة تتسلل من عينى يملؤها الذعر والتعاطف مع ألمه بشكل واضح، فبعد أن تم إنقاذ حياته وتماثل للشفاء جاء ذات مرة لزيارتنا بالمستشفى ليشكرنا، وأخبرنى أنه لم ينس نظرتى أثناء تلك الجراحة وأنه أشفق على حينها لدرجة أنه كاد يطلب منى أن أنتظر بالخارج مع والدته.

 

أذكر أيضا مريضى صاحب الثمانين عاما، الذى زارنى فى العيادة محمولا على الأكتاف، بجسد هزيل ووجه قد أسدل ستائره رافضا مرور ضوء الشمس لمداعبة عينيه، تحدثت إلى أولاده الذين اصطحبوه إلى عيادتى ثم تحدثت إليه محاولة أن أجتذب من فمه الحديث بعد أن قرأت نتائج تحاليله وأشعاته ثم فحصته، لا أعلم كيف خرج هذا الرجل من عيادتى يسير على قدميه كأنما عاد شابا من جديد، مقبلا على الحياة بالرغم من أننى لم آت بجديد فى حالته طبيا...!! لكننى أظن أن تلك الطفلة الساكنة بداخلى تسللت مرة أخرى لتمنحه هذه الطاقة والحيوية.

 

ظل هذا المريض يزورنى أسبوعيا بالرغم من أن محل إقامته فى محافظة أخرى، وتقريبا فى كل مرة كان يأتينى بهدية.

أحب الطفلة وأحفظ عهدى معها دائما لكننى بالرغم من حبى لها وامتنانى لأثرها الجميل فى حياة من حولى إلا أننى أشعر أحيانا أن الأطفال فى زمننا هذا لا يجب أن يسكنوا أجساد الكبار، أشفق عليهم من مواجهة الكثير من الزيف والأشياء السيئة التى تحيط بنا يوميا.

 

أغلب من حولنا طردوا الأطفال الذين كانوا بداخلهم فأصبح كل شىء يحتمل الزيف والتلون، حتى الأشياء الطيبة أصبحت تتوارى خجلا أو خوفا خلف الأقنعة فلا تخبر عن نفسها صراحة.

 

كلما حاولت أن أنقض عهدى معها، طوقت عنقى بذراعيها متمسكة بصحبتى، لابد وأنها تعلم أنه يوم مفارقتها سيلفظ صدرى آخر أنفاسه.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة