محمد حبوشه

منذ نصف قرن.. قبل أن تصبح تونس "بقدونس"!

الجمعة، 04 أغسطس 2017 02:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وآسفاه على الفن المصرى الذى كان فى زمن الكبار، فقد كانت الكلمة المغناة قادرة على لملمة الجراح فى زمن الضياع، والانتصار على آلام الهزيمة فى وقت الانكسار، وتجاوز مخلفات نكبة يونيو 1967..
 
وآسفاه مرة ثانية على "أم كلثوم" التى كانت رائدة كوكب متفرّد بنوره الوضاء فى دياجير الظلام الدامس، حين كانت صوت الحب والعواطف الجيّاشة، وهى أيضاً صوت العروبة والثورة وحرية الإنسان: أهل الهوى، الأطلال، حديث الروح، أمل حياتى، هلت ليالى القمر، أنا فى انتظارك، حسيبك للزمن، بعيد عنك، اسأل روحك، ولد الهدى، رباعيات الخيام... وغيرها من الأغانى والقصائد التى جعلت من أم كلثوم أيقونة الأغنية العربية بكل خصائصها الأصيلة الضاربة جذورها فى أعماق الحضارة الإنسانية الإبداعية، ومع ذلك لم تخرج علينا يوماً لتقول لنا إنها الهرم الرابع فى مصر، كما ادعت "شيرين عبد الوهاب" فى أحد البرامج مؤخراً، فى تحدٍ سافرٍ وتعالٍ شديدين، وكأنها لامست السماء بأطراف أصابعها لتبلغ مجداً يعلو فوق قامة أم كلثوم. 
 
على ذات المسرح الذى اعتلت خشبته "شيرين" وقفت السيدة العظيمة أم كلثوم، فى مطلع يونيو عام 1968، فى شموخ مستمد من عظمة مصر ورونقها الذى كان فى زمن الفنانين الكبار، لتشدو بصوتها كاسرة حاجز الصمت الذى كان بين بلدين شقيقين "مصر وتونس"، حيث كان التونسيون فى تلك المرحلة يتّجهون بقلوبهم وعقولهم إلى الأمل القومى المنبعث من مصر الناصرية، فعلى الرغم من الخلاف السياسى بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر، ورغم تأثيرات نكسة يونيو 1967 الناتجة عن العدوان الصهيونى على الجمهورية العربية المتحدة، لم ينقطع حبل التواصل الثقافى والحضارى، ولم ترتدّ روح الانتماء القومى ولا الإيمان بوحدة الجذور والهدف والمصير، خصوصاً أن الأصوات المصرية، وفى مقدمتها "أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ" كانت فاعلة فى إثراء الوعى الجمعى، متوهّجة بعبقرية الإصرار على الحياة والتواصل والانتصار لأحلام وطموحات الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.
 
هكذا كان حال "مصر" مع "تونس" قبل أن تصبح "بقدونس" بفرط من حماقة بعض مطربينا فى زمن المسخ الغنائى، وليس أبلغ من رد على تلك الحماقة سوى ذكر بعض من مناقب الجمهور التونسى لدى استقباله لكوكب الشرق أم كلثوم من خلال فيلم وثائقى نادر صدره أحد مذيعى التليفزيون التونسى بكلمة بليغة قائلا:  أسعد الله أوقاتكم : 
منذ حوالى نصف قرن وبالتحديد فى غرة يونيو 1968، زارت كوكب الشرق، فقيدة الفن العربى السيدة أم كلثوم تونس، فكانت زيارة خالدة حظيت فيها بالتكريم والتبجيل والتقدير، سواء على المستوى الرسمى أو الشعبى، وأحيت أم كلثوم حفلات ساهرة كانت من أروع وأفضل وأفخم حفلاتها، الحفل الأول فى غرة يونية 1968 بقصر الرياضة بالمنزه وفيه غنت أم كلثوم قصيدة "الأطلال" ثم أغنية "فكرونى"، وفى الحفل الثانى بنفس المكان غنت كوكب الشرق أغنيتى "أنت عمرى وبعيد عنك".
 
خلال هذه الزيارة كانت لأم كلثوم أنشطة عديدة فى تونس وزيارات لداخل الجمهورية نكتشفها فى هذا الفيلم الوثائقى الذى أهدته التلفزة المصرية للتلفزة التونسية منذ 40 عاما، وتحديدا بمناسبة وفاة السيدة أم كلثوم فى فبراير 1975 م، فمع كوكب الشرق مع الفنانة الخالدة أم كلثوم نعيش تفاصيل زيارتها الخالدة إلى تونس، وأغانيها فى هذه المناسبة عبر هذا التسجيل النادر والوثيقة المرئية المهمة.. سهرة طيبة.
تطل من بعد تلك المقدمة المذيعة الشابة - آنذاك - السيدة "نجوى إبراهيم" بفستان "كات" مطرز وبتسريحة شعر قصيرة، وبابتسامة مميزة تصف لنا أجواء الرحلة التاريخية فى حياة "أم كلثوم" قائلة على أنغام موسيقى قصيدة "الأطلال": سيداتى سادتي، سئل شاعر: لماذا تحب بلدك فقال: 
لقطعة خبز
لشيئ من الحب 
للصمت فى بيتنا الأزرق
لدفئ ليالى الخريف هناك
وللشمس فى لوحة المشرق
لقصة راعى وراء الخيال
ترددها بفم مرهق عجوز 
وتدنى لنا كالسراب 
قصورا من الحب لم تخلق
لطيبة قلب الفقير هناك
فقد جاع يوما ولم يسرق.
الشاعر من تونس والمدينة إحدى بقع الربوع الخضراء، إلى هذه البلاد الجميلة تونس، طارت كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، هكذا تحكى "نجوى إبراهيم" قائلة: فى المطار قالت أم كلثوم "أنا رايحة لقطعة من وطنى .. وطن العرب .. كل العرب .. تونس الخضراء"، وتستطرد "نجوى" ذاهبة فى حديثها العذب إلى وصول كوكب الشرق إلى مطار قرطاج بعد ست ساعات، وأول أن دخلت الطائرة المجال الجوى التونسى تلقت أم كلثوم برقية من هيئة الاستقبال تقول: "دخلتم منذ لحظات الفضاء الجوى التونسى فأهلا وسهلا، يسعدنا أن نقدم لكم باسم الجماهير التونسية التى تنتظر لحظة الاستماع إلى صوتكم الخالد أحر عبارات الترحيب فى بلدكم تونس" .
فى المطار كانت الجماهير تنتظر وصول طائرة أم كلثوم ساعة العصر، وتحديدا فى الرابعة والنصف، وكانت الجماهير من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ قد وصلت فى الثانية عشرة ظهرا، أى قبل وصولها بأكثر من أربع ساعات، انتظار طويل .. لكنه قصر لأن القادمة هى "أم كلثوم "، وكان فى المطار أكثر من 250 مراسلا صحفيا من مختلف دول العالم، حتى أن المسئولين التونسين أصيبوا بالدهشة قائلين أن هذه هى أكبر مظاهرة صحفية يشهدها مطار تونس.
 
بمجرد وصول الطائرة تحول المطار إلى خلية نحل، وبمجرد ظهور أم كلثوم تدافع الجمهور عليها بعد أن كسر الحواجز، حتى إنها استغرقت ساعة فى المشى مسافة "60 مترا" التى تفصلها عن قاعة كبار الزوار، وشاءت إرادة السماء أن ينزل المطر فى تلك اللحظات بعد غياب 4 سنوات عن تونس، ليطالع الجمهور وجه للسماء ضراعة وحمدا لله لقدوم كوكب الشرق بالخير.
 
كانت الاستعدادات على قدم وثاق قبل قدومها، خاصة فى القصر الرياضى بالمنزه، الذى سيحتضن حفلين لأم كلثوم بحسب الجدول المعد لذلك، وفى 48 ساعة فقط تم تجهيز غرفة داخل مبنى الاستاد لكوكب الشرق بحمام خاص، وألحق بحجرتها صالون واستراحة، وبمجرد دخولها الغرفة كان "البارفان" المفضل لها فى انتظارها من "كريستيان ديور"، وتم تزويد الإضاءة ومكبرات الصوت، فضلا 14 غرفة للإذاعة ومراسلى الصحف، هذا بجوار القرنفل والياسمين دليل الحب فى تونس، فقد كان فى انتظار أم كلثوم ( 280 ألف زهرة قرنفل ) لتحيتها.
أجرت "نجوى إبراهيم" حوار قصيرا مع والى تونس "المحافظ" قائلا، نحن نترقب منذ سنوات عديدة كوكب الشرق التى هى فى قلب كل تونسى، ونفتخر بها كتونسيين وعرب إذ رفعت شأن الفن العربى فى العالم، وكلنا من سنوات طويلة نترقب وصول أم كلثوم لأننا منذ الصغر وفى كل يوم من حياتنا عندنا لحظات طرب، ولحظات راحة، ولحظات فرح وسرور وهناء.. هى عادة السبب فيها أم كلثوم، فقد كان حلما أن تأتى لتونس وهاهو الحلم يتحقق"، لافتا إلى أن أكثر من 90% من التذاكر قد نفد قبل ثلاثة أيام من إقامة أول حفل، فالمواطن التونسى يقول دائما نحن لن نرى أم كلثوم سوى مرة واحدة فى العمر، لذا كان الإقبال على الحفل الأول والثانى أكبر من توقعاتنا.
منذ لحظة وصولها إلى تونس وحفلات الاستقبال لا تنتهى، فقد استقبلها الرئيس التونسى "الحبيب بورقيبة" وزوجته السيدة "وسيلة" فى القصر الرئاسى بقرطاج، وقال بورقيبة لأم كلثوم أنه هذا القصر كان فيلا صغيرة يسكنها أحد أثرياء تونس، وقد قمت بتجديدها وتوسعتها إلى أن أصبح قصرا منيفا، فردت عليه أم كلثوم فى دعابة وخفة ظل "ده كان زرار وعملتوا عليه بدلة " فقام على الفور ليستعرض الصور المعلقة على الجدران لزملاء الكفاح الذين أعدمتهم فرنسا واستشهدوا فى سبيل نيل الاستقلال.
 
وبذكائها المعهود كانت أم كلثوم تريد أن تتعرف على دور المرأة التونسية فى نيل الاستقلال، فلبت دعوة الاتحاد النسائى التونسى لتتعرف على أوضاع الطلاق وتعدد الزواج الذى كان مرفوضا فى تونيس آنذاك، وذلك فى جو من الشعر والرقص، والأخير يعد تكريما للضيف، والرقص القومى التونسى يشبه "رقصة الحجالة" فى مصر، وفى كل مكان تزوره كانت أم كلثوم تكتب كلمة فى دفتر الزيارات، ثم تصف "نجوى إبراهيم" المشاهد التى سبقت صعود أم كلثوم خشبة المسرح، حيث يدلف الحاضرون للحفل فى أناقة تليق بأم كلثوم "كنشيد مشترك يذكر الناس بعروبتهم .. شيئ مشترك لا خلاف عليه " - بحسب ارتجال "نجوى إبراهيم" من وحى اللحظة - واصفة ملابس الحاضرات بأنها تجمع بين فساتين باريس وأقدم عباءات المغرب العربي، فضلا عن أن ثلث الحاضرين كانوا يحملون أجهزة تسجيل كى يحظوا بتسجيلات لأغانى أم كلثوم من واقع الحفل المهيب.
أم كلثوم رددت فى أغنية الأطلال مقطع "هل رأى الحب سكارى" أكثر من 35 مرة، ليرتفع بعدها صوت فى قلب الصالة مزلالا قاطعا الصمت المذاب فى النشوة، قائلا، "اتصرفى فينا كيف ماتحبى"، ومن جانبها تتصرف كوكب الشرق بطريقية كلثومية، وكانت مصر وقتها على كل لسان وقلب كل تونسى، كما جاء على لسان إحدى الحاضرات تدعى " فاطمة البحرى – ممثلة مسرح وإذاعة " فى الاستراحة قائلة " أم كلثوم ليست مطربة الشرق العربى، بل هى الصاروخ الذى لايفنى مدى الأيام ومدى العصور .
 
قال أحد مذيعى التلفزة معلقا على أغنية فكرونى،  "كان صوت أم كلثوم سلطانا على الجميع، وعندما انتهت من الأغنية كان الجمهور سكارى من الهوى الكثومى"، ذلك الهوى الذى أجمع عليه حب أكثر من 100 مليون عربى، لتؤكد "إن فن أم كلثوم كان ومازال له محبوه الشغفون بسماعه فى بلادنا، إن كل ما تعنت به هذه المطربة العبقرية من أحسن ماجادت به أساتذة الفن فى المشرق " هذا ماقالته وكالة "تونس أفريقيا للأنباء" فى أول برقية فنية تكتبها باعتبار أن زيارة أم كلثوم لتونس بمثابة عيد خالد.. وبالفعل كانت أم كلثوم هى الرمز الذى يمثل عظمة مصر فى الكرة الأرضية كلها، انطلاقا من حب نادر لتراب هذا البلد وكل بلدان العالم العربى ومنهم فى القلب تونس الخضراء.









مشاركة

التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

عُقيل - تونس

ذكريات موسيقية جميلة

مقال جميل، شكرا لكاتبه على وصف أجواء زيارة أم كلثوم إلى تونس لمن لم يسعفه حظه أو تسمح له سنه بمعايشتها. كنت آنذاك طالبا في سنوات الإعدادي الأولى في المعهد الصادقي بتونس، وأذكر أننا سمعنا بخبر زيارة أم كلثوم لتونس من مدرس اللغة الفرنسية (وكان فرنسيا) الذي قال إنه سيذهب لحضور حفلتها، وعندما سألناه إن كان يعرف العربية أجاب أن الموسيقى تعبير عن المشاعر الإنسانية وأنها تتجاوز كل اللغات، وكان ذلك درسا في حد ذاته. ولم يكن أي مقهى من مقاهي تونس التي كنا نرتادها للمذاكرة أو للاسترخاء آنذاك يخلو من أغاني أم كلثوم. وكانت موسيقى أم كلثوم هي الغذاء وهي العشاء، مثلما كانت أغاني فيروز وألحان الأخوين رحباني فطور الصباح التي نستيقظ على أنغامها يوميا. ولا شك عندي أن شيرين ستصطحب ابنتها يوما في زيارة إلى تونس، وأن ابنتها ستفهم، بما ستأخذه من أمها من ثقافة فنية، كيف حلّق بساط الريح بفريد الأطرش في رحلة في سماء عدة بلدان عربية، من بينها تونس الخضراء.

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة